قصتان قصيرتان

ثقافة 2019/09/02
...

كاظم الجماسي
 
1 - الزورق 
 
فيما السماء، على الضفة الأخرى من النهر، تقيم وسائد وردية وأراجيح وأسرة فارهة من نتف غيوم بيض، وتملأ فراغاتها ببالونات زرق بهيجة الهيئة، كان جان دمو، وقبالته قماشة سوداء مثبتة على حامل الرسم، منهمكا في تحويلها لبانوراما تكتظ، في قسمها العلوي بوجوه نظرة لأولاد وصبايا ينشجون بدمع مدرار، يساقط على شعر رؤوس ولحى شيوخ وعجائز، ثم تجري في أخاديد غائرة على صفحات وجوههم الذابلة، محتشدين أسفل القماشة..   لم أشأ أن اعلن عن وجودي، ريثما يتم جان رسم بانوراماه وقد راحت تتخللها، هنا وهناك، توابيت مكسوة برايات تنشب في أطرافها نيران، تصاعد ألسنتها لتعبر الحافات العليا للقماشة، حتى أنك لتشم روائح الدخان، فيما تقطر حافاتها السفلى، ومن مواضع عدة، قطرات حمر قانية، راحت تشق مسالك لها عبر الجرف، ذاهبة نحو النهر ... على حين غرة، ألتفت ألي جان فألفاني مأخوذا، أطيل التحديق في المشهدية الوحشية المرعبة التي خلفتها ريشته على القماش، صاح بي: ها ... ، أجبته مستفهما: ها ؟ ..، أشار بسبابته الى البانوراما: هذه ضفة ..، ثم وهو يرفع ذراعه بإستقامة نظره، ويضيف: وتلك ضفة ..
بلهفة وظمأ مضاعفين سألته: وكيف العبور؟!
مالبث أن مد ذراعه في عبه، ليخرج قنينة ملأى، ثم ليرفعها عاليا ويهتف مقهقها: هذا هو الزورق.
 
-2 تحرير
أفاق جان دمو، من رقدته، فزعا، على هاتف هتف به: قم ياجان وأملأ الأرض عدلا..، تلفت حوله فوجد نفسه في قلب الميدان المركزي للمدينة، محاطا بأكوام من قنان زجاجية فارغة، وصفوف متراصة من حافلات حمر لنقل الركاب، تحتشد نوافذها بأفواه فاغرة وعيون جاحظة تبحلق به. 
كان الوقت، كما تشير ساعة الميدان منتصف الليل تماما، نهض من فوره متناولا قنينة فارغة ومضى يقطر في حلقها ما تخلف من قطرات في قيعان القناني الأخر، ولما كان يفرغ من الواحدة يقيمها منتصبة خلفه ليتناول اخرى ثم أخرى..، متلبسا بفورة حماس منقطع الشبيه، حتى إذا أمتلئت قنينة كاملة بين يديه، التفت خلفه فرأى: متاهة من دروب مدورة كانت قد رسمتها صفوف القناني
 الفارغة..
لبرهة، وقف جان متفكرا..، مالبث حتى ولى وجهه صوب الحافلات، وراح يصعد الى الحافلة تلو الحافلة، يقطر قطرة واحدة من سائل القنينة فوق كل لسان من ألسنة الركاب المتدلية خارج أشداقهم، حتى إذا سقا لسان آخر راكب في آخر حافلة، عاد متفحصا لوحات أرقام الحافلات ليتأكد من كونها تحمل العنوان ذاته” ميدان – حرية”....
كان الوقت، كما تشير ساعة الميدان، منتصف الليل تماما، لما ركض جان مقهقها ملء قلبه، مطلقا، في الوقت ذاته، أقذع شتائمه، فاردا ذراعيه عبر المتاهة، تتبعه طائرة أسراب الحافلات.