طفل العذراء الهارب نحو حافات التنوير

ثقافة 2019/09/02
...

 
ضمن مشروع إحياء فكر الراحل كامل شياع، صدر عن دار المدى مؤخراً، ثلاثة كتب وهي (تأملات في الشأن العراقي) و(الفلسفة ومفترق ما بعد الحداثة) و(قراءات في الفكر العربي والإسلامي) وسبق للمدى أنْ أصدرت كتابه (يوتوبيا) ترجمه إلى العربية سهيل نجم.. من جهة أخرى يتم وضع اللمسات الأخيرة على كتاب (أوراق كامل شياع في الشأن الثقافي: الرواية، الفن، الشعر)، وجمع مما كتبه على صفحته في الفيسبوك. 
 
دراسات، أبحاث، نقاشات
تضم هذه الكتب أغلب الأبحاث والدراسات والنقاشات التي خاضها الراحل كامل شياع (1954 - 2008) الذي اغتيل في بغداد إثر عودته من منفاه الأوروبي، معولاً على عراقٍ جديدٍ بلا عنف وتعددي وديمقراطي. يرصد الراحل في كتابه الأول أبرز الأفكار الفلسفيَّة التي شغلت أوروبا بأسئلة ظلت تبحث عن أجوبة شاملة وجامعة، محاوراً أطروحات فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية (نهاية التاريخ)، بالإضافة إلى كتابات فريدريك جيمسون، وتيري ايغلتون، وانتونيو نيغري، وآخرين، في ما يتعلق بأسئلة ما بعد الحداثة، فيما ركَّزَ في كتابه الثاني (ارتدادات الفكر العربي والإسلامي) على اللحظة الراهنة وتحول الهويات الدينية والقومية والاثنية والعرقية الى مشروع سياسي وهو يبين عجز الفكر العراقي السياسي عن تصور الاجتماع البشري كاجتماع مدني يستند على مقولات المواطنة والمساواة والحقوق المدنية لذلك استعان لحيازة السلطة بالتمثيل الحصري لجماعات دينية او مذهبية او عرقية، لكسب الشرعية السياسية. وفي كتابه الثالث تناول إشكالية العنف في عراق ما بعد العام 2003 بأشكاله المختلفة مثل الارهاب والقتل على الهوية والاختطاف والتهجير، حيث يؤشر في كتابه الى ظهور ملامح نظام سياسي في العراق بعد العام 2003 مؤسس على القوة والعنف، نظام يعبر عن هويات فرعية منجذبة لخطاب شعبوي يغزو به المجتمع الاهلي الدولة، ويخلق الفوضى من دون ان يؤمن الاستقرار، هذه الحالة تعكس ما للموروثات الثقافية من تأثيرات في تشكيل الرؤى والخطابات السياسية المعاصرة، رافقها قيام تكتلات كبيرة على خط التنوعات ما عطل الحراك السياسي وولد استقطابات حادة واستبدل السياسة بالعنف ودفع الجماعات العراقية المتنوعة الى البحث عن التمايز والرأسمال الرمزي والهويات، حيث كان كامل شياع مراهنا على بث الحياة المدنية المشتركة، بطرق باب القيم الأخلاقية، داعياً إلى الخروج من النرجسية الثقافية والتمركز على الذات وإلغاء الآخر.
 
نقيض النسخة التخيليَّة
يرى كامل شياع أنَّ ولادة الديمقراطية في العراق عملية عسيرة والنسخة الممكنة والحاصلة فعلياً الآن لا علاقة لها بصيغتها المتخيلة. فقد تم استبدال الديمقراطية التمثيلية بالديمقراطية التوافقية وتم اعتماد المحاصصة الطائفية والقومية والعرقية في حقل (التمثيل السياسي) بشكل رسمي منظم وفق توازنات، تشمل جميع المواقع الرئيسة في مؤسسات الدولة ادت الى التعامل مع السلطة كملك او امتياز استنادا الى منظور لاهوتي للسياسة او نزعة عصبوية محافظة. وهذا تجاوز على أهم مبادئ الديمقراطية الحديثة وحقوق الإنسان وتدمير لمفهوم الدولة الحديثة، كامل شياع أنموذجٌ للمثقف العضوي وهو جزء من مشروع تنويري نقدي تبلور عبر السنوات الأولى ما بعد العام 2003 وسط عالم الفوضى والقتل وقد دفع حياته ثمناً لهذا المسار.
 
إنتاج ثقافات ما قبل الدولة
استطاعت الدولة العراقية منذ التأسيس أنْ ترسم خطاباً ثقافياً أحادياً يمتلك الحقيقة المطلقة في ذاته عبر إقصاء الثقافات الأخرى داخل المجتمع العراقي (كالثقافات الإسلامية التنويرية، الثقافات العلمانية الماركسية، الليبرالية) فضلاً عن ثقافات الجماعات القومية والاثنية والدينية وقد شكلت الدولة (كليات ثقافية مركزية) تتسم بالشوفينية والعدوانية والاصولية متماثلة مع تجليات الرؤية الفاشية للتاريخ في فهم العالم وتكريس الذهنية الاستبدادية والحكم المطلق داخل حقل المتخيل الثقافي العراقي، على الرغم من هذه الشمولية الثقافية يقول كامل شياع: «نمت ثقافة عراقية تميزت بكونها ثقافة ذات منحى دنيوي، علماني، ثقافة مدنية تأثرت بالايديولوجيات السياسية الحديثة التي سادت في العراق، هذه الثقافة كانت تعمل في حقل او مجال يختلف اختلافاً كلياً عن مجالي السياسة اليومية والدين».
بعد انهيار الدولة الفاشية لم يخضع الحقل الثقافي العراقي الى متغيرات كبيرة وذلك لارتباطات هذا الحقل بطبيعة السلطة السياسية وتركيبات البنى التقليدية والقوى الاجتماعية السائدة، اذ قامت النخب الثقافية والسياسية باعادة انتاج الثقافات ما قبل الدولة الحديثة (الطائفية، الاثنية، القومية) وذلك لعدم تبلور (جماعات المثقفين العراقيين) وتشكلهم كقوة فاعلة في التاريخ فضلاً عن دوغماتية الاحزاب السياسية العراقية فقد أخذ الحقل الثقافي يتماهى مع المشهدية السياسية متشظيا الى ثقافات فرعية، اذ تعاني النخب الثقافية العراقية من اختلالات هيكلية او انفصام تاريخي فهي مندمجة في خطابات ثقافوية شعبوية ويحدد كامل شياع اشكالية الثقافة في العراق الآن فيرى ان هذه الاشكالية تقع في حقل الصراع بين الثقافة الشعبية والثقافة العالية وبوادر تكرار النزوع الى الهيمنة السياسية على الحياة الثقافية وتورط الثقافة والفنون بمهمات تعبوية، ويضيف ان تأسيس مشروع ثقافي تنويري هو من مهمات المثقف العراقي للمساهمة في صنع نظام انتاج ثقافي متعدد المصادر ومتنوع الاتجاهات يروج لرؤية إنسانية عقلانية منفتحة على العالم تسهم في ترسيخ قيم المساواة وحرية الانسان وكرامته وخلق استجابات عامة للفن والجمال بعيدا عن آليات الحذف والصهر للثقافات الفرعية سواء كانت هذه الثقافات كردية وايزيدية أو تركمانية أو آشورية والانتقال الى النظام الثقافي التعددي، وقراءة تاريخ المجتمع العراقي كجزء من التاريخ العالمي الكوني وليس بوصفه وحدات منفصلة وانما كسيرورات تاريخية وتنمية الأبحاث والدراسات التاريخية والاقتصادية والفلسفية واستخدام المنهجيات المعرفية الحديثة والمفاهيم ونقد الجذور النظرية والفكرية والممارسات السياسية للكتابات ذات المنحى الفاشي التي تم إنتاجها داخل تمثيلات النظام الثقافي العراقي وهو الدرس الموضوعي لنهاية شكل من اشكال الرؤية الاحادية في النسق البنيوي للثقافة العراقية.
 
بيان أولي لمشروع التنوير
إنَّ الفعل الإجرائي الأول الذي يتطلب القيام به للبدء بمشروع التنوير في المجتمع العراقي هو إحداث قطيعة معرفية مع الثقافات التداولية التي تحمل أحكاماً ايديولوجية مسبقة وتفتقر للعلمية السياسية والرهان على إنتاج معرفة موضوعية تتكرس أساساً في الانتاج الفلسفي العقلاني والنظم الاجتماعية والانساق القيمية بوصفها توليفية شمولية متكاملة وانتاج مفاهيم محايدة عن البنى السوسيولوجية وتسمية الدوائر والهويات العراقية المتعددة بعيدا عن النبذ والانغلاق والتعصب والخروج من التأطيرات الاصولية التي هي رد فعل سلفي هجائي قوامه الرفض المستديم للآخر والاندماج بالحداثة العالمية وتأسيس البديل السياسي في العراق الذي يقوم على الشراكة لاعادة بناء الدولة الوطنية المتعددة ثقافيا وإثنيا وتقيد التسيس المنفلت للهويات الفرعية وتعزيز عملية الدولنة، اي تمكين الدولة من احتواء المجتمع الاهلي وتحديث الولاءات عبر ارساء ثقافة سياسية مصدرها الانسان كوجود وقيمة وحقوق قائمة على التعايش والتعاقد تتسع للتنوع والخصوصيات المحلية وبناء مؤسسات دستورية سياسية وانسحاب الدولة من المجال الطائفي والقومي والاثني.
 
 
من قتل كامل شياع؟
نجد الإجابة بشأن هذا السؤال ضمن سيرورات تكون المجتمع العراقي، البعض سوف ينظر الى هذه الاجابة على انها ترف فكري في حين نرى من وجهة نظرنا ان كامل شياع أو أي مثقف تنويري يشكل مفارقة تاريخية لتكوينات المجتمع العراقي، يكون عرضة للإقصاء والهتك والابعاد الجسدي والفكري؛ وذلك لكون المجتمع العراقي مجتمعاً قهرياً ذا بنية هشة يؤسس ذاته وبشكل دائم على الفوضى والعنف والقتل والجريمة السياسية، فهو لم يتشكل كمجتمع، يفتقد للتنظيم العقلاني تابوي تتحكم فيه القيم والموروثات الطائفية والعشائرية والخرافية والثقافات الرثة والانساق البطرياركية، فضلاً عن ضعف التنظيمات السياسية وتدهور الشروط الاجتماعية للوجود البشري وانهيار عناصر المدنية والتحضر داخل هذه التركيبة الالتباسية الغامضة قتل كامل شياع.