خطاب الشعر ... كتاب الأنوثـــة

ثقافة 2019/09/06
...

جاسم عاصي
 
يعتمد الكتاب الشعري لـ(عمر السراي) على تكافؤ أطراف المعادلة ، التي تُقيم العلاقة مع المرأة ، بتكريس مرّكز . فهو قصيدة واحدة مجزأة إلى لوحات تمكنت من جمع شمل الشعر الموجه ، بل المنغمس بالأُنوثة. فلا شيء سوى الانحياز لها .ولعل العتبة الرئيسية (وَلَهٌ لها) ،خير دليل على هذا . فالوله في مجال بوح الذات يفوق الحب . فالولهان بطبيعة الحال يرتكز حسياً على التعلق والشد بعاطفة واسعة الفضاء . ولعل ذلك متعلق مكتسب من الحس العربي الشعري كما هو في (مجنون ليلى) ، الذي فاق الحب باتجاه الفناء الشعري ، متجهاً نحو أُسطورية التعلق بالمرأة . ولعل(السراي) يُعقلن الوله ، جامعاً عناصره في إطار شعري يُميزه عن أٌقرانه من الشعراء . 
وبتقديرنا ثمة انسيابية صوفية  تحوّل الشعر لملامسة المخفي ، ليس من الجسد الأنثوي ، واعتباره أيقونة ؛ وإنما التعامل معه بمستوى متعادل الأطراف ، أي دون الافراط بالمشاعر الجاهزة والنفاق الشعري، بل التكتم الحسّي الوجداني ، منطلقاً من طبيعة التعلق المار بجهاز تقطير ذاتي ؛يُقدس الأنوثة ، حيث يضعها موضع تقديم الطقسي الأسطوري في الوجود الأنثوي ضمن المجال الذكوري . فهو لا يُفرط ليس بمشاعره كما ذكرنا ، بل لا ينساق إلى ما يُساعد على تبديد الحس الوجداني الصوفي الذي يفرز حساً منقى للجسد ، منطلقاً من اعتبارات التقديس هذا .فالقصائد يتحكم في تعاملها جهاز  التقطير الشعري ــ إن جاز التعبير ــ .وهو جهاز ذاتي ــ موضوعي ، فرضته الأخلاق المبنية بين طرفين(ذكورة +أُنوثة) ، وليس لاعتبارات موضوعية(اجتماعية) . فهو بحق خطاب(كتاب) الذكورة للأُنوثة الذي استعار الطهارة الصوفية عبر انسكاب تدفقات (الوله) وفق سمات تعبير لا يمس الجسد الأُنثوي بسوء  التعبير المُسرف . فالشعر هنا خطاب قدسي لرمز مستعارة خاصيته من مجمل الايقونات الأسطورية للعبور به إلى موضع أوسع في الدلالة والتعبير . والدليل على هذا اشتباك الحس الشعري بمكونات الواقع المضطرب ،دون التأثير السلبي الذي يُربك مسار الشعرية في القصائد.
إن المرأة هنا هي الكيان المرتقب ، المشكلة صورته عبر ما يقوم به النحّات الذي يتعامل مع كتلة صامتة ، يعمل على استنطاقها بالتدريج عبر أنامله. فمكونات النحات الفنية تكمن في شعرية النموذج ؛ وشعرية الشعر هنا متعلق بالنحت الشعري الذي يُعرّي الأشياء بجهازه الشعري .فالشاعر يُشدد على خاصية الحلم الذي يُكسب التعبير الشعري شفافية تندرج ضمن ايقونات الشعر المولع بشعرية الأنوثة وقدرتها على العطاء المعنوي الوجداني . إذ نلاحظ انتفاء توجيه خطاب الشعر باتجاه اللّوم والتأنيب كما هو السائدة في القصائد ، أي سيادة سلطة الفحولة المستعارة من الجسد، أو التشكي والتقريع. فرّقة التعبير يُكسب الأنوثة أُنوثة مضافة ، متجددة ، تماماً كما يفعل المتصوف بولهه بصورة الرب وايحاءاتها الحسيّة. فهما يتعانقان وبشدة أحياناً . لكن هذا الانفعال تتحكم فيه الارادة المطلقة المقدسة لهذه العلاقة . فالشاعر يتوجس كالصوفي ويحترز من التجاوز نتيجة تصعيد الوله وتشعبه. هكذا يُسيّر الشاعر ايقوناته الشعرية دونما ضجيج مفتعل ، قد يصل حد الصناعة الشعرية . فـ(السراي يبتعد قدر ما يستطيع عن التعبير الذي لا يمتلك حمولات الشفافية والصدق المرتبط بالوله وليس بالحب وحده .فالإهداء مثلاً ؛يُشير إلى استقلالية الذات ، كما هي استقلالية الذات الأخرى(الأنوثة) ، فليس ثمة مصهر للاثنين ، بقدر ما هنالك وجود ذاتي فـعبارة ( أخيراً اًنا وحيدٌ رغم وجودك ) تعبير مجازي يؤكد استقلالية الذاتين ، وارتباطهما معاً بشروط ذاتية أيضاً.
إن ديوان(وله لها) يزخر بالتنوع في أغراضه الشعرية . لكنه لا يبتعد عن المركزية لتي تُخاطب المرأة الموّله بها الشاعر . وهذ التنوع شمل عناصر الوجود في الزمان والمكان . ولم يبتعد عن الهم اليومي ، بل شغله بالشعر الناقد والكاشف أمام المرأة المرتقبة ، دونما ضجيج وانفعال :
{ حبيبتي /غداً ستنتهي الحرب ...
   وسأتحدث لكِ عن الشواجير التي ألقمناها/
     بدمائنا .. 
   وعن المدافع التي لم تكن تسأل عن طوائفنا }
فمثل هذا يُحيل إلى تاريخ صعب حفل به الوطن مقدماً أبناءه قرباناً لمجد رب الحرب. لذا نجده في موطئ آخر يدعو المرأة إلى الحضور إلى أحاسيسه غير المفرط بها ، لكي تكتمل دورة الوله بينهما :
{ فقلبك كبلاد الرافدين ...
   لا يكتمل إلى بنهرين من ورد وحضارة 
   فكوني
   نهري الثالث ...
  واعلمي أيتها القُبلة الطازجة كاندلاع الصباح ... أنكِ
    أنّى حملتك الريح ...
    سيكون هطولك ِ في شفتي ...}
هذه الهواجس وغيرها قادت وله الشاعر بالمرأة باتجاهات متعددة . معنى ربط فضاء الشعر بفضاء الواقع ، وعلى سجيته الصوفية :
{ أن الوطن واسع الخراب جداً ...
   سأدعوها لمقبرة غربية فاخرة ...
   نعيش فيها معاً .. لنخلص من كل هذا الموت الذي يدّعي الحياة }
إن ديوان (وله لها) محتشد بالصور المتعددة التي هي صوّر الحياة العراقية . لكن ما يُميز قصائد الشاعر ، كونها تتعامل مع الواقع بروية ، جاعلاً من انثاه المجال الرحب الذي يبث إليه اختلاجات ذاته المولعة بالحب العابر نحو الوله .أي التعلق الصوفي بالمرأة، دون أن ينفلت الشعر عن شعريته ، ليعمل على تعرية الجسد مثلاً ،أو الإفاضة بالمشاعر حد النفاق الشعري . إن القصائد شذرات صوفية خالصة باتجاه أنوثة مقدسة الجسد والوجدان .لذا فالبوح في حضرتها رغم الغياب اعتراف بوجودها ملاذاً لذات موله بالحب والوله
 الصوفي .