الرائحة

ثقافة 2019/09/11
...

محمّد صابر عبيد
تعدّ حاسّة الشمّ في طبيعة تشكّلها ووظيفتها وحساسيّة أدائها حاسّةً بالغة الرقّة والرهافة والسحر قياساً بالحواس الأربع المعروفة الأخرى، وهي تساوي أهميّة غيرها من الحواس وتقاربها خطورة وحضوراً وتأثيراً لأنّها ترتبط بالجسد ارتباطاً وثيقاً، فثمّة ما لا يمكن حسمه من دون تشغيل آليّات الشمّ ولاسيّما أنّ الطبيعة ممتلئة بأشكال لا حصر لها من الروائح، ومن الضروريّ استثمارها وتوظيف طاقاتها حتى يرتفع الإنسان درجة أعلى في سلّم الحضارة والإنسانيّة والذوق السليم، لأنّ الرائحة وسيلة مهمة من وسائل تربية الوجدان الإنسانيّ وهي تتجاوز منطقة الشمّ كي تتدخّل في مناطق الجسد – وحتّى الروح – كافة
مثلما تنطوي الرائحة على فعاليّة ذوقيّة راقية في نموذج مُعيّن من نماذجها فإنّها تنطوي على قدر من العنف في نموذج آخر، فثّمة روائح تثير نزعة الإنسان إلى التطرّف والعدوانيّة حين لا يتمكّن من الهيمنة على تحريضاتها ومداهماتها التي تخترق الجسد أولاً ثم الروح بعد ذلك، وهذا التعدّد الإشكاليّ في أداء الرائحة يحتّم على الإنسان إدراك معناها وفهم محتواها لأجل ابتكار طريقة مناسبة للتعامل مع معطياتها وضروراتها، إذ ينبغي استبعاد الرائحة المحرّضة على العنف وتشجيع الرائحة المحرّضة على المحبة والسلام والأمل، وربّما يتوقّف الأمر هنا على مناسبة تلقّي الرائحة من حيث المكان والوقت لأنّ ذلك يرتبط بالحالة النفسية التي يكون عليها متلقّي الرائحة لحظة الصدام المباشر بينها وبين مستقبلاته
 الشميّة.
تقتحم الرائحةُ الجسدَ بمفاصله كلّها وتتسلّل إلى أعماقه وتفرض عليه إيقاعها وتضاعف من طاقته الإيجابية في الذهاب الجميل نحو الآتي، لها سحر خاصّ لا يجاريه سحرٌ آخرُ في قدرتها على النفاذ إلى زوايا النفس الخفيّة والمضمرة التي نادراً ما يصلها شيء، وتلعب بها كما تشاء في هيمنة أخّاذة تنفتح أمامها كلّ الممكنات بلا اعتراض أو تَصَدٍّ أو مقاومة، لها نورٌ دفّاقٌ على شكل موجات دائريّة لا تنتهي، وتبقى متشبّثة بالروح والجسد والذاكرة حتّى تؤسس لها تاريخاً يصعب محوه أو تناسيه أو إغفاله.
لكلّ شيء في الحياة رائحة، ومن هذه الرائحة يمكن الكشف عن طبيعة الشيء وهُويّته وآليّة التعامل معه، فثّمة رائحة نفّاذة للطعام، إذ يقول الصينيون أنه ينبغي أن يكون للطعام لون وطعم ورائحة، وقد تكون الرائحة هي العنوان الأول لهذا الثلاثيّ الجميل، ولا يختفي دور رائحة الطعام إلا في حالة أن يكون الجوع كافراً - كما يقال - عندها تنتفي الحاجة للرائحة وحتى اللون والطعم، فالجائع الذي يحلم بالطعام لا يحتاج سوى ما ينقذه من غائلة الجوع ولا وقت لديه للتفكير بالكماليات الأخرى، لأنّ حاسة الشمّ المرفّهة تعمل في مرحلة ما بعد الإحساس بالشبع ودفع حالة الجوع بعيداً عن تشغيل آليّات الذوق وما تنتجه من
 معانٍ.  يمكن معاينة الرائحة بوصفها فعالية عمياء لكنّها ذكيّة حين تتمتّع بقدرة فائقة على أن تتسرّب إلى الأماكن والأشياء بلا حدود لتجتاحها اجتياحاً غامراً، إذ هي تتسلّل على نحو يكاد يكون خفيّاً بعض الشيء إلى أضيق المساحات والزوايا والطيّات والظلال والعتمات بلا عوائق، ويرتبط تلبّثها بالأشياء التي تغزوها بطبيعة كينونتها الماديّة، فعمرها وبقاؤها وديمومتها مرهونة بقوتها وكثافتها، وهي دائماً تتنوّع في درجتها من حيث تخصّصها رجاليّة أو نسائيّة بمعنى أنها ثقيلة أو خفيفة بحسب حاجة من يستخدمها، وهي ذات ألوانٍ متعدّدة وبأنواع كثيرة لا تُحصى استجابة لطبيعتها التجارية في ماركات مسجّلة تمتلك القدرة على الإثارة وتصنع سحر الشمّ، بما يجعل الحاجة إليها ماسّة لا يستطيع الرجل أو المرأة الاستغناء عنها تحت أيّ
 ظرفٍ.
تنقسم الروائح بين قسمين أساسين: الأوّل ينتمي للروائح الطبيعيّة التي تنتجها الطبيعة وهي الروائح الأصليّة التي لا بديل لها، وثّمة الروائح الصناعيّة المتمثلة بصناعة (العطر) في ماركاتها العالمية التي تنتشر على مساحة العالم بعناية بالغة، وبين حدّ الطبيعيّ والصناعيّ كثير من المسافات التي تعتمد على طبيعة الاستخدام وأغراضه
 ومقاصده.
يمكن عدّ الروائح الرمزيّة نوعاً ثالثاً ينضاف إلى النوعين السابقين ومنها رائحة التراث، تلك الرائحة التي تبقى عالقة لا تنسى في الضمير والوجدان والجسد والروح على مرّ الزمن، وثمّة الرائحة المتخيّلة وهي تحطّ على فضاء الإنسان في لحظة معيّنة وتحرّضه على الكتابة والإبداع، ومنها يتفرّع الحديث عن رائحة النصّ التي يشمّها الناقد من لحظة المواجهة الأولى بينهما، ليدرك أنّ هذه الرائحة تقوده إلى أرض إبداعية خصبة مكتظّة بالعطر، وللجمال رائحة غير حسيّة لكنّها طاغية ومهيمنة وفعّالة على مستوى تشغيل الحسّ البشريّ للاستجابة لها والانفعال بعطرها، إنّها رائحة طائرة نفّاذة تخترق الحُجُب وتثير أعلى درجات الانتباه والتمثّل والإدهاش
 والإعجاب.
تنطلق الروائح الرمزيّة من وحي فهم الرمز المختبىء فيها والإحساس العالي بما يحتويه من دلالات عالية الخصب، على النحو الذي تتجّلى فيه حساسيّة خاصّة تجاهها تبعث في خضّمها رائحة مميّزة لا تكتفي باقتحام المستقبلات الشميّة أو الحواسيّة الأخرى، بل تمتدّ نحو الحواس ما بعد الحاسة الخامسة كي تشغلها وتؤثّر في طرائق تلقّيها والتفاعل معها، فثّمة رائحة للمعنى على هذا النحو، وأخرى للصورة التي تتدفّق حيواتها داخل فضاء الاستقبال البصريّ، وثّمة رائحة أخرى للحلم حين يطغى على جوّ النوم ويتسرّب منه إلى جوّ اليقظة، وللكلام رائحة تتحدّد قيمتها وطاقة نفاذها من طبيعة اللغة التي يقوم عليها هذا الكلام، ورائحة اللغة تنتمي إلى بيئة كلّ لغةٍ من لغات العالم، ولعلّ السمة الأكثر شيوعاً في جعل رائحة اللغة رائحة خاصّة تتمثّل في رائحة الصوت والإيقاع والتنغيم بوصفها هويّة مميّزة للغات، حيث لكلّ لغة رائحتها التنغيمية النوعية التي يتفاعل في تلقّيها حراك الأنف والأذن معاً، وإذا ما عبرنا إلى مصطلح “تراسل الحواس” سندرك قيمة تأثير الرائحة بصرياً وسمعياً وذوقياً ولمسياً فضلاً عن الشميّ المرتبط أساساً بهذا
 المفهوم.