العراق والمجال الثقافي بين الدولة والمجتمع المدني

ثقافة 2019/09/13
...

عدالت عبدالله
 
مع تجربة العراق الجديد، بتنا بحاجة فعلاً الى تفعيل لغة النقد إزاء الواقع الثقافي الذي يتوقف عليه جزئياً تطور أي مجتمع أو تقهقره. والمجال الثقافي هو أحد المجالات الرئيسة التي ينبغي ان يُخضَع للنقد البناء لكي يستمر في عطاءاته.
  فالثقافة كمجموعة من الأنشطة الفكرية والفنية والإبداعية هي حقل حيوي للمحافظة على الثقافة بمعناها الأوسع الذي نجده عند الأنتروبولوجي الإنجليزي إدوارد تايلور(1832-1917م)، أي «ذلك الكل المركّب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد، والفن والأخلاق والقانون، والعادات وغيرها من القدرات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع».
   وهذا الحقل لا يرتبط بمسؤولية الدولة وحدها، حتى وإن كانت هذه الأخيرة هي التي تتحمل بالعادة الجزء الأكبر من هذه المسؤولية. إنه حقل مجتمعي بإمتياز، يُفترض ان يسهم فيه جميع القطاعات الثقافية الأهلية والمستقلة طالما الثقافة هي أساس تعبر عن روح المجتمع ومرموقيته في نظر المجتمعات الأخرى. كما ان المراكز الثقافية التي لا تخضع لسلطان الدولة ومرتبطة بالمجتمع المدني، هي الأخرى مسؤولة عن الواقع الثقافي في المجتمع وحيثياته.
 بمعنى آخر، ان الإتكال على الدولة في تنشيط الحقل الثقافي يقتل الشعور بالمسؤولية لدى قطاعات واسعة من المساهمين في الإنتاج الثقافي ويجعلهم خاملين وعاطلين عن أي عطاء يذكر، لدرجة أنه من الممكن ان يُلغي أي وجود حقيقي لهم في الإبداعات الفكرية والفنية، وبالتالي يجعل الدولة هي الطرف المُهيمن تماماً على حقل الثقافة وجميع الأنشطة المرتبطة به، ما يعني هنا المشاركة، ضمنياً، في إرساء أسس النظام الشمولي الذي يتعظم معه شأن الدولة وسيطرتها كاملةً على كل شيء طالما يرفع المجتمع المدني بنفسه ولاسيما أوساطها الثقافية والفكرية، مجاناً!، الراية البيضاء ويستسلم كاملةً لما تمليه الدولة عليه في ظل غياب حضوره هو ودوره في إطار أوساط ناشطة معنية بهذا الحقل.
  وفي ما يتعلق بالواقع الثقافي العراقي، فالمعادلة قريبة من هذه المقاربة تقريباً: ان الدولة هي وحدها اليوم تمثل الواجهة الثقافية للبلد من خلال الوزارة الخاصة بهذا الحقل ومديرياتها، أو دوائرها ودورها، ويرجع ذلك، حتى ولو كان جزئياً، الى تراجع الأندية والمنتديات الثقافية التابعة للمجتمع المدني، في الوقت الذي تتحمل الأطر الثقافية وأوساطها غير المرتبطة بالدولة، هي الأخرى، مسؤولية الواقع الثقافي الذي يعيشه اليوم العراق. 
   صحيح ان هذا المجال، لاسيما في الدول الريعية، لا يخضع فعلياً إلا لإرادة الدولة نفسها باعتبار ان هذه الأخيرة هي التي تمول المراكز الثقافية وتتحكم بها، ولكن هذا ليس كل شيء، فحضور نظام سياسي يكفل الحد الأدنى من الديمقراطية وحرياتها – وهذا النظام قائم نسبياً في العراق حالياً- يسهم لا محالة في ولادة قوى مجتمعية تعبر عن إرادة ثقافية من دون المراهنة على الدولة، وجوهر المجتمع المدني ليس سوى هذا إذا ما أردنا حقاً الدفاع عن هكذا مجتمع حفاظاً على الديمقراطية ووقايةً من التقهقر الثقافي.
     كما ان الأحزاب السياسية، وفق بعض المفاهيم المعنية بمضمون المجتمع المدني، تقع هي الأخرى ضمن خارطة هذا الأخير، وعليه بإمكانها هي أيضاً المُساهَمة في تفعيل الحقل الثقافي، وذلك من خلال قنواتها الإعلامية ومنابرها، فضلاً عن دعم الأوساط الثقافية ومراكزها التي تروم الاعتماد على ذاتها وإغناء المجال الثقافي برأسمالها الرمزي المستقل.