الماءُ مطلقٌ في ذاتهِ وحر يحمل سر الحياة ، وهو يتوافق مع مفهوم الارتواء , ولغته هي لغة الحياة ؛ والشعر يماثله في مطلقه، وفعله فعل الماء في الاشياء بعنفوانه وتمرده وحيويته التي لا تتقيد بزمنه، فهو لا يعبر عن الشعور بلحظة ما بل هو شعر مضارع مستمر وبامتدادات اخرى، فأول الحضور للكلمات، وحتى آخر الكلام بعد اكتمال المعنى ، سنجد أن اهم محاور ديوان (تجاعيد الماء) للشاعر مهدي القريشي والصادر عن دار الروسم هو قلقه من الحياة ، وهذا يشكل الصراع بين احتجاج وتمرد الذات الشاعرة في بحثها الدائم عن الخلاص واستعادة الحياة يصاحبها رغبة حقيقية في تغيير الواقع نحو الافضل ، مصحوبة بوعي هذا التغيير نفسه ، فيكتب بدلاً من الإهداء
لعنة...
على اللاهثين صوب اغواءات الفرجة
على مروجي (حكمة) نهاية سعادتنا: الموت
من بداية الفكرة في قصيدة (القلق في محنته) الى تجسيدها في قصيدة (جسد منشطر)
من الممكن ان نُحيل القلق الى لوحةٍ تكعيبيةٍ على اعتباره فكرة رجاجة باحتمالاتٍ وبتأويلاتٍ متعددةٍ ، في إدراك لقيمة وجمالية هذا التشكيل الشعري وتأثيره في المتلقي ،علينا أن نتتبع ما تسعى اليه الصورة في ان تكون مطابقة للفكرة وامتداداتها الكثيرة وفي ابتعادها واقترابها منها وتضادها معها ايضا , فسنجد أن الصورة فيه قد تجاوزت وظيفتها التعبيرية ، لتتألق وتشكل عملاً فنياً، لتتحول الكلمة داخلها لمفردة شكلية تبدو أكثر حرية وهي تنزلق في المعنى وتتخذ تنويعات عدة لتصبح في النهاية جزءاً من التشكيل البصري للقصيدة ، فالشاعر يسكنه هاجس في أن يحتوي ذاته ويرى أفكاره . وهي تتشكل في صور عبر ابعاد الزمن الثلاثة ، فكل شيء حي ويتحرك ويتشكل ويتلون وتتعدد صوره الذهنية ، التي سعت لضبط ايقاعها ضمن توليف متناغم وشاهق ، و فتنتها تكمن في أنها تعبر عن الشيء ، وما ينبغي أن يكون عليه فيقول في قصيدة القلقُ في محنتهِ
لطفاً أيها القلقُ
ماذا دهاكَ
تسيرُ في شوارعِنا
بخشوعِ ناسكٍ
وتشرب من ينبوعِ اللذة ِ
وتشير الى جثثِنا المعلقة
وهي تتصببُ خجلاً.
التكعيبية برأيي هي ليست انشطار الافكار وتأويلها بقدر ما هي تأسس لتلك الافكار، هي وضدها وهما الاثنان معا ، الشيء ونقيضه ، أحدهما يعبر عن ذات الاخر بقدر ما يعبر عن ذاته هو، فيقول في قصيدة (جسد منشطر)
أخرج للشارع برجلٍ واحدةٍ
وعينٍ واحدةٍ
واحتار أي اليدين أدخرهما
باليمنى أشطبُ على خياناتي
وباليسرى أمسحُ مؤخرتي..
عندما ابتكر الفنان الفرنسي كلود مونيه أسلوبه الانطباعي حاول ان ينقل الواقع الى ما يشبه الحلم فحاول ان يضيف عليه كثيراً فرسم لوحاته بالضوء والألوان , وفي فن الشعر ليس من السهل ان تجعل من الكلمات لوحة ألوان (باليت) ترسم شعراً , الآن الشاعر القريشي حاول فعل التشكيل الشعري في قصيدة (تجاعيد الماء ) ففي مفتتحها نجد أن الشاعر يرسم لوحة انطباعية بلغة شعرية لنهر الغراف، والانطباعية هي منطقة وسطية مابين الواقع والحلم , وهي برأيي ابعد من فكرة لوحة (انطباع شروق الشمس) لمونيه فهي اقرب منها الى التأمل في أقاصيه البعيدة , لذا كانت (موتيفات) أو الفكرة الرئيسة لقصيدته (تجاعيد الماء ) , هو الواقع الذي ينتظم على شكل حلم، لذلك تتآلف الصور وتنتظم في تشكيل هذا النسق وهذا ما ابتكره الشاعر وأبدع فيه وجعل من زمنها زمن مطلق فليست هناك فواصل زمكانية تحدد العلاقة بين الأشياء , فهي لا تزال تبدو وكأنها منبعثة لتوها من روح الشعر , وتبدو أنها ستعيد تشكيل صور التكوين الشعري وعلاقته بشكل الحياة بأكملها في القصيدة وجعلها بقدر ما تشابه أسلوب النهر وجريانه وتكيفه مع الطبيعة , وهنا النهر يتجلى في الكلمات معبراً عن فكرةِ الحياة في تجلياتها الإنسانية , وسترافقنا ايضا موسيقى الماء على مقام الرست بامتداداته الطويلة التي تعبر عن الاشتياق , ثم ينتقل ،و في تناغم تام ، الى مقام الصبا بإيقاعاته التي تعبرعن لهفة الوصول لتقارب المسافات الزمنية بين النغمات وتلاحقها كأنما تتبع الموجات , وكأن الشاعر يجري حواراً بين الماء والضوء والكلمات فيقول في قصيدة (نزهة فوق نهر لغراف) :
أسماك البُني والشبوط تستمتع بدفء مياه الغراف. لا شباك تتنزه ولا سنارة تأكل جرف الشط، ولا لصوص! الكل فصوص ألماز.
النوارس لا تطأطئ الرأس في مزاجها مع قوس قزح.. تبلل ذاكرتها بأهداب النهر وتنزف مناقيرها شعراً في نزهة فوق الغراف.. فلا يبقى للشاعر الا أن يصرخ في وجه الوردة.
ثم بعد ذلك يبدأ الشاعر في تدوين تاريخاً شعرياً لمدينته، فيجعل من الزمان والمكان شيئاً رائعاً يمكن قراءته على اعتباره فكرة، ثم يذهب إلى أبعد من ذلك في تدوين التاريخ شعرياً للشخوص الذين تأثر بهم , فهو لا يقدم سيرة سردية لحياتهم بقدر ما يستلهمها ويقدم روحها ورؤيته لها ،لذا حاول انشاء اساطير يدونها على صفحة الماء وعلى ورق القصيدة ثم يبثها بعد ذلك نغمات من ماء وكلمات في الهواء.
والناظر الى تجربة القريشي في (تجاعيد الماء) سيجد أنه اقترب من فعل التشكيل الشعري محاكاة واستجابات للقيم الفنية والجمالية والأسلوبية، وسنجد أنه كان يسعى إلى التمثل بقواعد التشكيل، وإلى توليد قيم مقابلة له في فن الشعر، فالشاعر جعلنا نستمع الى نبرة الألوان وموسيقى الضوء والماء ، فهو يرسم شعراً.