حين تخالف الصفةُ الموصوف

ثقافة 2019/09/17
...

حسين الصدر
 
- 1 -
 هل ثمة من موردٍ تخالفُ فيه الصفةُ الموصوف ؟
فالجواب :
نعم ، انّ ذلك ما يلجأ اليه الشعراء في أشعارهم ...
فالشعر – كما قيل – أعْذَبُه أَكْذَبُهُ ومتى كان كاذباً جاز ان تخالف الصفة الموصوف .
ان الشعراء هم المستثنونَ من قواعد اللغة استثناء خاصاً لا يشاركهم فيه أحد ...
وخير مثال على ذلك قصة (بشار بن برد) مع الرجل الذي دخل عليه وهو نائم في دهليزه فقال :
« يا أبا معاذ 
من القائل ؟
انّ في بُرديَّ جسماً ناحلاً 
لو توكأتُ عليهِ لا نهَدَمْ 
فقال :
أنا «
ولم يكن جسمه ناحلاً بل كان ضخم الجثة ضخامة مرعبة ..!!
 
وكان مفرطاً في الطُول ..
ولقد شبهّه بعضهم (بالجاموس)، والناحل يشبّه بالغزال لا بالجاموس كما هو معلوم ..!!
ثم قال الداخل عليه :
« من القائل :
في حُلتي جسمُ فتىً ناحل 
لوهبّتْ الريح به طاحا 
قال :
أنا 
قال :
فما حملك على هذا الكذب ؟
والله اني لأرى لو أنَّ الله بعث الرياح التي أهلكَ بها الامم الخالية ما حركتك من موضعك «
لقد اختار بشار لنفسه صفة (النحول) – نحول الجسم – للتعبير عما صنع به الحُبّ ... مع أنه صاحب كيان بلغ الغاية في الضخامة والدمامة ..!!
وكل ذلك مغتفر في الشعر طبقا للاستثناء المعهود .
 
- 2 -
 ولم يكن (بشار) ملتزماً بالصدق في معظم أحواله ...
لم يكن صادقاً في شعره ،
ولم يكن صادقاً في كلامه ...
وكان يأتي بألفاظ غريبة يزجها في شعره زجّاً
فقد تعزل فقال :
صببتِ هواكِ على قلبه
فضاق وأعلن ما قد كتمْ
فقالت : هويتَ فَمُتْ راشداً
كما مات عروةُ غمَّاً بغمّ
دستُ اليها ( أبا مجلز) 
وايّ فتى إنْ أصاب اعَتزَمْ
فما زلت حتى أنابت له
فراح وحلّ لنا ما حرمْ
قيل : 
سأله سامع :
ومن هو أبو مجلز ؟ فقال :
ماحاجتُك اليه ؟
ألكَ عليه دَيْن ؟
أتطالبه بطائلة ؟
 
هو رجل يتردد بيني وبين معارفي في رسائلي !!
 
 - 3 -
يقول العلماء :
« الضرورات تقدّر بقدرها « 
 
وأراد (بشار) ان يتجاوز الأصول في سائر الأحوال فسمعُ وهو ابن السبعين – يرفع عقيرته بالاذان وهو ثَمِلٌ سكران « 
والأذان مقدمة للصلاة – وهي أقدس الفرائض – بينما معاقرة الخمرة إثم – على حد تعبير القرآن –
فكيف يختلط المقدس بالمدنس ؟
هنا دفع (بشار) الثمن ...
فلقد ضُرب ضربا مبرحا بالسياط ، - عقابا على ذلك – حتى أشرف على الهلاك 
 
 - 4 -
 ويبدو انّ سياسي الصدفة، ممن تهدّلت كروشهم من اختلاس المال العام، واستغلال المناصب، أرادوا ان يشملهم الاستثناء أيضاً .
ولكن هيهات ...
يصفون أنفسهم بأرقى الصفات وأسمى السمات ، ولكنهم لا يتورعون عن اجتراح أفظع ألوان القرصنة واللصوصية ...
فما الفرق بين من يؤذن في حالة السُكر وبَيْنَ مَنْ يتظاهر بالإصلاح وهو من فرسان الفساد ؟
 
- 5 -
 
لقد سجّل التاريخ ما قارفه (بشار) من انفلات وتبذل وما حلّ به في نهاية المطاف ...
ولا شك انَّ القضايا المتماثلة يشملها حكم واحد لا يختلف باختلاف الزمان والمكان
وهكذا بات المنحدرون الى مستنقع الخيانة، من أدعياء الأمانة، معرضين الى العقاب ، وإنْ تأخر ايقاعه بهم لظروف خاصة معلومة ...
-6-
انّ (بشار) لم يكن يمثّل الشعراء كلهم في مباءاته ونزواته، وأمثاله فيهم قليلون ....
ولكنَّ المصيبة انَّ أمثاله في سياسيْ الصدفة كثيرون،وقد أبتلي بهم (العراق الجديد)، بعد أنْ ذاق ممن سبقهم ألوان الظلم والاجحاف ...
والسؤال المركزي الذي يطرح نفسه بإلحاح :
هل ينجو أدعياء الاتصاف بالاستقامة والعدل والنزاهة والعفاف مما حل بمن سبقهم من فرسان الانحراف ؟
 
والجواب : 
انهم حلقة جديدة في مسلسل المنحدرين الى الهاوية .