السارد الذي يكشف عن خفايا التاريخ وأسراره هو في الحقيقة باحث عن الحقيقة التي قبعت مغيَّبة خلف الحدث التاريخي الذي أوصلته إلينا مدونات التاريخ الرسمي ومصنفاته. ويتحقق للسارد ذلك حين لا يعنيه التوقف عند هذه الأحداث التاريخية الجزئية؛ بل يهتم أكثر بمحاولة فهم مسار الأحداث التاريخية ككل ومن هنا يقارب عمله عمل الفيلسوف الذي همه أن يتغلغل إلى المجهول جاعلا من التاريخ واحداً من انشغالاته
الفلسفية.
وتتعدد الاتجاهات الفلسفية وتصوراتها ما بعد الحداثية للتاريخ، بدءاً من أرسطو الذي عد السرد التخييلي أكثر فلسفية وعلمية من التاريخ لأنه يتعلق بالحقائق العامة معالجاً كليات ما يحدث وليس ما حدث فعلا، لكن المؤرخ الحديث يحاول أن يضمِّن تاريخه حقائق غير قابلة للشرح أو تفصيلات غير جوهرية كي يثبت واقعية ما يكتب ،ولعل هذا ما جعل الروائي الفرنسي فولتير أول المنتبهين إلى اغراءات الفلسفة التاريخية، مستعملا مصطلح فلسفة التاريخ وهو القائل :” لم نكتب إلا تاريخ الملوك ولكننا لم نكتب تاريخ
الأمة”.
ولم تتوان الدراسات في ميدان فلسفة التاريخ عن تطوير مناهج البحث وطرائق الكتابة التاريخية في تفاصيلها الجزئية، بغية استشراف التاريخ استشرافا عاما في كليات مساراته وعموميات مناهجه وشمولية طروحاته ولا نهائية رؤاه، ليتم البت فيها من جديد على وفق إرهاصات المرحلة العولمية ما بعد الحداثية وتكنيكات أدبياتها المحرضة والداحضة
والانقلابية.
وهذا ما كان الفلاسفة العقليون قد تنبهوا له فعدوا التاريخ مجموعة تواريخ ومنهم هيجل الذي يعد من أوائل من جمع بين التاريخ والفلسفة، وميّز بين ثلاثة تواريخ هي التاريخ الأصلي والتاريخ النظري والتاريخ الفلسفي. ولكل واحد من هذه التواريخ طريقة في كتابة التاريخ، لكن ذلك لم يكن بقصد خلخلة ثوابت المادة التاريخية ونكران علميتها وموثوقية تدوينها، وإنما بقصد الوعي باشتراطات التاريخ لفهم جدلية الواقع /المادة، فضلا عن تفسير أساسات صيرورة المادة وما يتحكم في تبلورها وديمومتها، وبالشكل الذي يُبقي على الأبطال فاعلين حقيقيين وينحّي المهزومين
ويناوئهم.
بيد أن فلسفة التاريخ بمعناها ما بعد الحداثي قامت على عكس تلك الرؤى المركزية وحولتها إلى رؤى غير مركزية وجعلت ما هو غير مهم مهما ومركزيا حتى غدا المهزومون هم مادة هذه الفلسفة في مبتدئها ومنتهاها ليبرز دور الضعفاء ويتلاشى دور الأقوياء والعظماء من منطلق أن الشعب هو صانع التاريخ. أما الفلسفة الاسلامية فلم تتجاوز الى حد ما الفلسفة اليونانية في ما يتعلق بالزمن والتاريخ والادب، ولا يختلف الامر اليوم اختلافا كبيرا اذ ما زال المفكرون العرب المعاصرون يدينون لتلك الفلسفة
بالكثير. والمسألة في علاقة الفلسفة بالتاريخ لا تختلف عن علاقة السرد بالتاريخ والسبب أن فعل الذاكرة لا ينفصل في عمومه عن خصوصه، كما لا يختلف البعد الذاكراتي الفردي عن البعد الجمعي كتحصيل عنه واستتباع له، ولا ينفصل العامل الشخصي فيها عن العامل الرسمي لأنهما متلاقيان حتما في شكل علاقة بين الذات والزمان والمكان. من هنا لم يقتصر الاشتغال في السرد التاريخي ما بعد الحداثي على الوقائع التاريخية حسب بل وظَّف الأخيلة واستلهم الأساطير وأعطاها أبعادا تمثيلية ذات دلالات رمزية وبما يجعل المعطى الثيماتي المترشح عن التاريخ لا مباشرا ولا
عمليا. وواحدة من تمثيلات السرد التاريخي( رواية التاريخ) التي هي كتابة سردية تتخذ من التاريخ موضوعا، موظفة المسعى الإيهامي الذي يعطي للكتابة طابعا تخييليا لا يسلِّم بما حفظه التاريخ لنا من مرويات ووثائق، هادفا الكشف عن زيف المرويات التاريخية وما لحق بها من لبس بسبب الايديولوجيا التي تختفي خلف واجهة الحواشي الأكاديمية وخلف ستار التوثيق والارشفة. وعادة ما تتوسل رواية التاريخ بفرضية ما بعد حداثية مفادها بأن التاريخ مادة سردية قابلة للتنميط والتمطيط وليست مادة معرفية مفروغة الفرضيات والنظريات مقطوعة الشك محنطة في الماضي، فينزوي التاريخ الرسمي ويضيق نطاقه ليتكلم محكي التاريخ بدله وبهذا التحول لا تعود الحيوات توابع مطمورة أو مغمورة وإنما هي غالبة، عبر اصطناع ذاكرة مضادة للتاريخ تقوم بإعادة إنتاج
الماضي.
ومن تقانات تحقق هذا البروتوكول توظيف الشهادة كوثيقة بها يتم إلغاء مسألة التحقيب لتكون اللازمنية هي الدينامية التي يسير عليها المعطى البنائي في رواية التاريخ التي هي ليست صيغة تجنيسية خالصة ولا نمطا سرديا ولا نوعا أدبيا، وإنما هي تشكيل ثيماتي ومحتوى جمالي يجمع السرد الذي سمته التخييل بالتاريخ الذي سمته العلم ليدمجهما في بوتقة ليست تخييلية وليست علمية ضمن مسعى يبغي جعل المادة التاريخية موضوعا حياتيا يتم تناوله سرديا تماما كتناول موضوعات الحياة المعاصرة أي نزع مسألة التقادم الزمني عليها وتجريدها من محدداتها وقيودها االتاريخية ووسمها براهنية الفعل السردي
المعاصر.
ولا شك في أن للدرامية دورا وظيفيا مهما في تعزيز السرد التاريخي فتتداعى الذاكرة وتتعزز اشتغالاتها الزمانية على المستوى الشكلي أما على المستوى الموضوعي فإن التوجه السردي يظل نازعا منزعا واقعيا يوسم بأنه إيهامي. ومن ثم لا تعدو مسألة العلاقة بين المرجعي والنصي ذات خصوصية في إطار التوظيف التخييلي التقاني وسيغدو التاريخ مجرد مسرود متخيل لا وقائعي. وهذا ما يتيح للحكاية المروية أن تتحرر من الانعكاس والمحاكاة للواقع متجهة صوب مديات من التخييل الروائي ومن غير اتباعية واقعية، ليكون المتحصل رواية التاريخ وليس رواية
تاريخية. وعندها ستصبح المغامرة السردية في مصادرة وقائعية التاريخ الرسمي ومغالبته فنيا، بمثابة اشتغال فلسفي يحرِّض المخيلة على التفكير أولا؛ وكنوع من المقصدية القرائية في استنطاق الدلالات آخر، عبر توظيف التقانات السردية التي بها تتخلخل الثيمات التي شيدتها فلسفات التاريخ على اختلافها ويصبح الاجهاز عليها أمرا ناجزا، وهو ما تتكفل بعمله( رواية
التاريخ ).