هدية حسين
عالم ضاج بالأحداث ينبني على صدفة عابرة، ذلك ما أتحفنا به الروائي الإسباني خابيير مارياس في روايته (غراميات) التي ترجمها للعربية صالح علماني وصدرت عن دار التنوير للطباعة والنشر، ويعد خابيير مارياس من أبرز روائيي إسبانيا وهو مترجم أيضاً ومن المرشحين لجائزة نوبل، وتستهويه الكتابة في مواضيع مثل الخيانة والغدر والغموض وكتمان الأسرار، وهو كما صرح في أحد الحوارات لا يضع مخططاً للرواية التي يكتبها بل يحلو له ممارسة فعل الاكتشاف أثناء الكتابة.
تبدأ الرواية بالصدفة التي تقود ميغيل الى المرور في أحد الشوارع الأكثر أمناً في مدريد، فيستوقفه متسول مجنون يعتقد بأن ميغيل هو السبب الذي جعل ابنتيه تمتهنان الدعارة فيقتله بست عشرة طعنة، هكذا تلعب المصادفات لعبتها وتغير المصائر، ليست مصائر من يلقى حتفه فقط، بل من يرتبط به عاطفياً من أسرته وأصدقائه، فما هي الأحداث التي تلت
موته؟
في إحدى الكافتريات تلاحظ ماريا التي تعمل في دار نشر وتتناول فطورها كل صباح، ما يسترعي انتباهها، زوجان يأتيان في الوقت نفسه الذي تكون فيه في الكافتريا، زوجان رائعان، تسميهما الثنائي الكامل، ستعرف ماريا بعد ذلك اسميهما ميغيل ولويسا، وستكون ماريا ولويسا آخر ما شاهدتا ميغيل للمرة الأخيرة، وسيمر وقت طويل على تلك الحادثة حتى تأتي لويسا مع طفليها الى تلك الكافتريا، وبعد أن يتناول الطفلان طعامهما يذهبان الى سيارة بانتظارهما وتبقى السيدة لويسا جالسة، فتعمد ماريا الى الاقتراب منها لمواساتها، تنتهي تلك الدقائق بدعوة لويسا لماريا الى زيارتها في البيت، لتتكشف لنا من خلال ذلك اللقاء وما بعده الكثير من الأسرار والشخصيات الأخرى والأحداث الفاعلة في ترتيب بيت هذه الرواية، جرى الحديث من طرف واحد تقريباً، حيث تحدثت لويسا عن نفسها كأنها المحور الأساس بمرور ضعيف على حادثة الزوج، فقط لتؤكد أنها الآن أرملة بائسة تعيش على الماضي طاردة كل أمل بحاضرها ومستقبل أبنائها، وفي نهاية ذلك اللقاء حدث ما أوقف استمرار الكلام حين طرق الباب وحضر السيد دياث باريلا صديق العائلة، ويبدو لماريا من خلال دخوله كما لو أنه رجل اعتاد المجيء مرات ومرات، وأنه يعمل بما يمليه عليه واجب الصداقة التي كانت تربط بينه وبين صديقه الراحل، تخرج ماريا بعد التعارف البسيط وثقل ما تحدثت به لويسا عن نفسها، لتأتي بعد أيام قليلة مصادفة لقائها بدياث باريلا في أحد المتاحف، لقاء لابد منه لتسير رواية خابيير مارياس في سياق جديد وانعطاف بالأحداث ينفتح على علاقة بين ماريا ودياث الذي بدا لنا، وهو كذلك كما رسمه المؤلف، رجلاً مثقفاً يأخذها الى عوالم أخرى ما كانت تخطر لها على بال من لقائها الأول به، وتأخذ الرواية منحى آخر من خلال دياث الذي له رؤية خاصة بالموت والحياة وكثير من الأمور الحياتية، يعلق على حالة لويسا ويلخص نظرته للحياة والموت على النحو التالي (إنها لا تريد أن تخرج من حالة كون زوجها لم يعد موجوداً) و(إننا نميل الى الرغبة في عدم موت أحد وعدم انتهاء شيء مما يرافقنا ويشكّل عاداتنا المحببة، دون أن ننتبه الى أن ما يُبقي على العادات سليمة بلا تغيير هو تجاوزنا المفاجىء لها دون انحراف أو تطور محتملين) و(.. فما يستمر يتلف وينتهي الى التعفن، يضجرنا، يتحول ضدنا، يوصلنا الى حد الإشباع) و(ما كان رائعاً بالأمس قد يصير مزعجاً في الغد) ص140
يسهب دياث خلال لقاءاته المتكررة بماريا في الكلام عن رؤيته في الحب والفقد والناس الذين يعيشون كما لو أنهم خالدون في الحياة، ولا يتقبلون موت أعزائهم، إن المؤلف يفلسف على لسان شخصية دياث كل شيء في الحياة ونظرتنا لها، بمبالاة ولا مبالاة، وقد تكون شخصية دياث باريلا هي صوت خابيير مارياس ونظرته في مجمل القضايا التي يطرحها، والتي غالباً ما تحمل رؤية كونية للمشاعر بعد الفقدان.. خصوصاً بعد أن تتطور العلاقة بين ماريا ودياث، علاقة ليست لها اشتراطات دوام الحال، فهو رجل لا يفكر في الزواج، ولا يحبذ الوقوف مطولاً في محطة التعلق بالأشخاص، وإنما بما تحتمه الحياة في ظرف ما، قد يستمر ولكن ليس الى الأبد..ماريا من جانبها لم تضع شرط البقاء مطولاً معه، لقد تفهمت شخصيته واكتفت بتلك اللقاءات، سواء كانت لقاءات حميمية تقودها للفراش معه، أو لقاءات فكرية تتغذى منها وتصبح زاداً مضافاً لخبرتها في الحياة، فهي تتفهم أن الخسارة في حالة الموت للمتوفي وليس لمن يبقى من
بعده.
لا تتوقف الرواية عند هذه الأمور، فقد حدث ما قلب نظامها رأساً على عقب، فبمصادفة لم تخطر على بال وأثناء ما كانت ماريا في فراش دياث تسمع طرقاً على الباب، يتسلل دياث من الفراش ويمضي ليفتح الباب، يأتيها صوت رجل فيدفعها الفضول الى التنصت فإذا هي في دائرة الريبة مما سمعت، حيث يدور الكلام عن مقتل ميغيل، لنكتشف أن ثمة علاقة بين مقتل ميغيل وصديقه، لم تكن العبارات التي سمعتها ماريا مترابطة، لكنها ستعرف بعد أيام من دياث نفسه بعد أن تواجها أن الأمر ليس كما فهمت، لكنه لا يعفي نفسه من المسؤولية، بل إنه المخطط الذي تابع العملية عن بعد، فهل أراد دياث إزاحة صديقه ليحظى بزوجته لويسا؟ قد يبدو الأمر كذلك لكنه ليس تماماً ما يخطر على بال القارىء حين تسير الرواية باتجاه بوليسي وبحزمة من الارتيابات والشك تحاول ماريا معرفتها بطريقتها الخاصة، وسنتوقف كثيراً ونحن نبحث عن حقيقة ما حدث أمام العبارة التي قالها دياث " ليس المطلوب هو ترك الموتى ينصرفون عندما يتأخرون أو عندما نحتجزهم، بل يجب إفلات الأحياء أيضاً في بعض الأحيان" ص372 نخطىء عندما نعتقد أن دياث حض أو شارك بمقتل صديقه ميغيل لأنه فقط يحب زوجته، هناك سبب أقوى وأعمق من مجرد الوصول الى هذا الهدف، وهذا ما سأتركه للقارىء ليتابع بشغف رواية "غراميات" للإسباني خابيير
مارياس.