جاسم عاصي
تُعد قصص (سعيد الروضان) التي ضمتها مجموعة (شجيرات دفلى)؛ من النصوص التي تنتمي إلى الواقع والتاريخ الاجتماعي مباشرة ،من دون الالتفاف على الظواهر بما يوثر سلباً في رؤيتها وفق منطق صحيح وواضح، بالرغم من أنها نصوص التزمت بالبنية الفنية لكتابة القصة ،وضمن حقل معالجة الهموم الاجتماعية، فالأمكنة استثنائية من حيث تاريخها كالمدينة الجنوبية (العمارة)، دون احداث خلل أو شرخ في هذا الجانب المهم في فن الكتابة التي تأسست عند القاص على رؤى متمكنة، ومتدربة على مستويات معرفية متعددة ساعدت على تنضيد النص.
ومنها الأهم هي القراءة في لغة أُخرى والترجمة منها .لذا نجد في القصص نكهة خاصة وتسجيلا أمينا للظواهر المتبناة في النصوص. لقد انغمست القصص في أكثر المفاصل واقعية من أجل الارتقاء بها إلى مصافٍ أُخرى أكثر عمقاً . بمعنى كان التحليل أهم وسيلة لسبر غور النماذج والظواهر وعلاقتها الجدلية المتمثلة في الصراعات على شتى المستويات .
العتبات
ابتدأت المجموعة من مفتاحها الأول ،ونعني به العتبة(العنوان).وهو مأخوذ من عنوان قصة ضمتها المجموعة. فـ(شجيرات دفلى) ؛تصغير لا يعني به التقليل من شأن استنبات وجودها الوارف ،بقدر ما عنى به التحبيب بمعنى(التدليل) . كما أنه جعلها من دون أل التعريف (الدفلى)، مما زادها عمقاً في المعنى والتأثير. فقد عني بها كل شجيرات الدفلى وارفة الظلال وعبق الرائحة. فالتصغير هنا نأى بها عن الهرم والعلو ، وجعلها كقامات إنسانية تشب وتنتشر وتنمو لتضفي على الوجود جمالاً وظِلاً ، فهي قامات تستقبل الحياة بعنفوان . ولعل هذا ينسحب أيضاً إلى لوحة الغلاف باتجاهها .فلحظة معرفتنا بالفنان الذي رسمها وخطط ما في داخلها ؛بأن عمره لا يناهز الخمس سنوات ،وهو (علي حسين سعيد) ،مما يضعنا ضمن دائرة محكمة من متعلق العنوان بلوحة الغلاف .فكلاهما ينحو للفتوة والنهوض عبر التصغير المحبب، وما تسيّد في اللوحة عبارة عن ضربات لفرشاة الرسم ، انغمست بعمق في الألوان وطبعت على السطح محتواها اللوني ، وبمجموع الضربات الفنية المتحكمة بها الطفولة الرخوة ، أنتجت لازمة فنية ذات ايقاع يُحيل إلى طبيعة النصوص التي تميّزت بإيقاعات متنوعة وفق رؤى ذاتية وموضوعية صاعدة.
أما العتبة الثالثة (الاهداء) فقد انطلقت من صيرورة الانتماء إلى المكان ، وحصراً مدينة العمارة ،حيث مسقط رأس الكاتب .وقد توزع الاهداء بين أمكنة متعددة شكلت تاريخه في المكان ومنها( الحلم ، الشهداء ، الكتاب ، المكتبات ، المقاهي ، الشطوط ، اللهجات ) . وهي أيضاً نتاج خمسين سنة من الكتابة في القصة . وهذا يُحيلنا إلى سنوات كتابتها التي انحصرت منذ سبعينيات القرن المنصرم والثمانينيات ، وما بعدها . غير أن الملفت للنظر ؛إن بناء القصص لم يؤثر فيه التباعد الزمني ، فقد بدأ واستمر على نفس الوتيرة من التطبيق لملازمات الفن القصصي ، وقد بيّنا السبب أعلاه .
المتن القصصي
لعل ما يلفت النظر في النصوص هو السبك الفني ، الذي ينطلق من وعي الكتابة وشروطها الصعبة . فالقصص لها معمارها الفني الذي يتصل جدلياً بالموضوع المتعلق بظواهر اجتماعية فرضتها طبيعة الحياة ، سواء في ريف المدينة ، أو حاضرتها . فمجموع حراك النصوص تسجيل أمين لتاريخ يُضاف إلى عيّنات تاريخ المدينة التي تميّزت بتشكلها الطبقي ،فهي من أكثر مدن الجنوب اصطفافاً لقوى الاقطاع، وحدوث ردّ الأفعال (الانتفاضات) الشعبية المشهود لها تاريخياً. وبهذا وغيره شكلت النصوص معمار المعنى الذي زخر بتشكلات عميقة تسرد طبيعة البنية الاجتماعية والاقتصادية للمدينة . لقد انطلق الكاتب من نقطة مهمة التزم بها معظم الكتاب ، وهو المطلع على إرث الإنسانية . فالتحليل النفسي للنماذج كان السمة البارزة في النصوص . فهي معالجات التزمت طبيعة الأفعال وردودها .إذ يأخذ بالشخصية من نقطة تردداتها وقلقها . وهي صفة تميّزت بها الشخصية العراقية كما ذكر علماء الاجتماع ومنهم(الوردي) . إن القلق هو النقطة التي تمسّك بها الكاتب ،للوصول إلى الممارسات سلبها وايجابها ، بمعنى خلق لهذه الترددات النفسية(القلق) ثيمة حققت أفعالاً مؤثرة. كما وأنه لم يغفل تاريخ الشخصيات ، لاسيما تلك التي تتماهى مع واقع تاريخها داخل النص . فمثلاً في قصة(أقمار شتى) التي سجلت الواقع وبعضا من سيرة الأخ الراحل(عبد عون الروضان) ،إنما كانت تأخذ بالخاص ليكون عاماً . وتتمسك بالواقعي الذي يخص الشخصية ليكون علامة إنسانية كبيرة. فشخصية (الروضان) نموذج استثنائي في الوجود ، سواء أكان هذا ضمن تاريخ الطفولة أو الشباب وصولاً إلى سن الستين، الذي شهد ارتقاء معرفياً كبيراً ، شكل ملمحاً في حياته الثقافية والمعرفية ، ومنها الترجمة عن اللغتين الانكليزية
والفرنسية. وهذا يشكل سمة نادرة رائدها الاصرار على الوصول . فالإحباط لم يكن يوماً جداراً للسكينة والاستسلام كما ذكر (همنغواي) على لسان(سانتياغو) بطل(الشيخ والبحر) ؛ من أن( الإنسان قد يندحر ،لكنه لا يُهزم). إن الاهتمام بالبنية النفسية لازمت كل النصوص ، لكن إيقاع السرد اختلف وفق مؤثر نفسي خاص .كما في قصة(فرسنا الشهباء ذات الغرة الناصعة) . فهي لم تكن سوى نص الأفعال وردودها ،وفق رؤى متمكنة ،التزمت بواقعية الفعل ، وتتابع الانعكاسات التي هي رؤية المربي والمحلل النفسي ، وليس الانجرار وراء اللغة الانشائية التي تصب كتلها في التعبير على ما لا يلزم وترك ما يلزم . وهذه الخاصية لم تكن إلا انعكاس التجربة في الكتابة من جهة، واستيعاب حركة النصوص بهذا الشأن في الأدب العالمي من جهة أُخرى ،خاصة كتابات(تشيخوف ودستويفسكي).
إن عمق قصص (شجيرات دفلى) يتمظهر في تنوّعها أولاً ، ووضوح معالم الأمكنة الجنوبية كالبيئة الريفية ،والمحلة الشعبية والأسواق ثانياً. فهو دأب لرصد المعلم المكاني برؤى منفتحة وعارفة بخصائصها وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة . إن الكتابة عن المكان، تنطلق من الحلول في المكان التي أكدها الباحثون في دراسة صيرورة الأمكنة وعلاقتها بالإنسان وتشكلاته المختلفة، وفي مقدمتهم(ياسين النصير وأسعد الأسدي) ، فقد أكدا كثيراً تأثيرات المكان في الإنسان ، بما يشكل تاريخ حياته .لأن هذا الوجود في المكان يشكل تاريخ الفرد والجماعة . وهذا ما فعله القاص(سعيد الروضان) عبر مجموعته هذه .