[I]
ثَمَّةَ أنواع من الفكر، وضروب مختلفة من إنتاجه، هي على أقل تقدير ثلاثة:
I - يتضمَّنُ تقديماً للفكر على نحو بحيث هو يتضمَّنُ فهماً من أجل الجميع. توجد تجسداته في ضرب من ضروب الكتابة يأتي بالمعرفة العِلميَّة- والفلسفية إلى مستوى العادي. وبهذا الإتيان تفقد المعرفة عمقها ومعناها ودلالتها.
II -يتضمَّنُ الفكر من أجل الجميع؛ يتضمَّنُ ضرباً من ضروب الكتابة الذي يُحدَّدُ انطلاقاً من الطلب عليه. يخضع الفكر هنا إلى جملة معايير ليست ناتجةً عن ماهيته فيفقد شيئاً فشيئاً أهميته وضرورته ومعناه، فيصبح فكراً عاديَّاً.
III - نجد تجسداته أينما يصادفنا نص بطيء. ذاك النص الذي يتطلب تأنِّياً وتمعُّناً طويلاً من أجل بناء فهم به.
[II]
تنتشر عبارات من نوع: “يجب أن نكتب بطريقة يفهمنا العاميّ”، “يجب أن ننزل إلى مستواه”، “تجب الكتابة بطريقة يفهمها الجميع”، “الأبراج العاجية”، “المثقف العضوي”، ... وإلخ، إلى ضروب الفهم العادي... ولكن، على ماذا تقومُ جملةُ الإفهام التي تُحتَجَبُ في هذي الأقوال؟
[III]
يجب أول الأمر أن نشيرَ إلى أن الإفهام- البداهات التي ترتدي رداء هذي الأقوال تتضمن منطق فهم هو يأتي من نظرية بعينها من نظريات الاقتصاد المتعددة. إنَّها نظرية الليبراليسم، وبدقة، نظرية السوق الحرة فيها. إنَّ كل الذين لا يكتبون إلاَّ ضمن الطلب إنَّما هم موضوع سوسيولوجيا الأفكار، عند المحطة الأولى من التَّساؤل عن الأفكار، أي محطة تناول المعرفة العادية- [اليوميَّة] بوصفها معرفةً تحجب المعرفة، وفكراً يحجب الفكر، وتفكيراً [على- الضِّدِّ-
مِنْ- التَّفكير].
أولئك الذين هم، في أحسن الأحوال، يقعون في مستوى التصورات العامة حول أشياء العالَم. ماذا يعني ذلك؟ وما الوظيفة التي تؤديها هذي الأفكار، التي تقع على شاكلتها؟ إنَّها تؤدي وظيفة الجهل، وبناء، وإعادة بنائه [في- كُلِّ- مَرَّةٍ]. لماذا؟ وكيف يكون ذلك؟
إنَّ معرفة لا تؤدي إلاَّ وظيفة تصوير الواقع، ولا تنطلق بـ[التعرُّف] إلاّ من الطلب عليها، لهي معرفةٌ متواطئة مع الجهل؛ إنها الأخطر، على المجتمع، من المعرفة التي تنتجها الجهلة.
[IV]
ولكن، لماذا هي الأخطر على الوعي المجتمعي، من الجاهل؟ في الحقيقة، نحن لا نفكر إلاَّ بقدر ما نشعر بخطرٍ مجتمعيٍّ ما.
وهكذا، فإنَّ المعرفة الأصليَّة إنَّما هي تنطلق من بؤرة القلق الأُنطولوجيِّ (الوجودي العميق) الأصليّ؛ هي معرفة تُصدم، تُشير إلى وجود المخاطر، فإنَّها تُقلق. فهي مُحاربة، مَكروهة، ممقوتة.
وأي معرفة تُحجب الخطر المجتمعيِّ، وتتواطأُ مع الجهل، بتقديم معرفة يفهمها الجميع، وبحجب المشاكل البنيوية والتاريخيَّة التي في المجتمع، إنَّما هي تسهم، المساهمة الأساسيَّة، في الذِّهاب إلى الهلاك المجتمعيّ، في جملة حقول الوجود المجتمعيّ.
[V]
إن تفكيراً مسجوناً [في- ذاته] لهو، في أفضل الأحوال، تفكير لحظة. بيد أنَّ التفكير الأصلي إنما هو ضرب من ضروب الإنوجاد في الكُلِّيّ؛ أي الذهاب إلى ذاك الذي يُحدَّدُ بالانطلاق من [المجتمعي Societal].
وهكذا، يقع الجاهلُ الواعي بجهله، في موقع مَنْ يصغي ويتعلم. في حين يقع الجاهلُ الجاهلِ بجهله في موقع من لا يتوفَّر على الصَّبر الشريف الذي من شأن المعرفة، لأنه أساساً لا يتوفر على إرادة المعرفة.
إن الجاهل من النوع الأول، هو من أجل أنه يتوفر على إرادة المعرفة، عالمٌ بجهله، على هذا النحو أو ذاك. فهو ينسحب إلى بؤرة القلق المعرفيّ- الذي لا معنى له من دون وعي عميق للخطر المجتمعيِّ الكُلِّيِّ- أمام أي تحدٍّ مجتمعيٍّ تاركاً المجال للقول في أن يُبنى من قبل مفكري المجتمع؛ ولكن، لوهلة فقط.
ويعود، فيعود من جديد، بقوة معرفية ضاربة مجتمعيَّاً. إنَّها المعرفة التي تولد من أجل المستقبل.