ياسين طه حافظ
كان هذا عنوان قصيدة كتبتها يوماً من أيام بدء الشعر. لكنّي رأيتها من بعد مخيفة، بدت لي مع الخوف لا تستحق النشر فعدلت ونسيتها بين اوراق مهملة كثيرات. هو أول الخوف على كل حال، وبداية التخفي. لكن الموضوع كبر حولي. وظل “كلب سُكْنَة” كل هذه السنين يُلقي ظلّه على ورقة الكتابة حين أكتب، بل أراه يصحبني في أحيان. وهكذا ألفتهُ على مرار، فظلّه قريب منّي وحين أكون في جلسة في مقهى ويشخص أمامي في باب كل دائرة رسميّة، وكثيراً ما ظهر لي بكل هياجه عقب كلام قلته أو كتابة كتبتها!
أقول لكم قصة الكلب الذي كانوا يسمونه “كلب سُكْنَة”، باسم صاحبته “الخبّازة” التي تبرّأت من ملكيته وقصرت المسألة على أنها كانت تطعمه حين كان جرواً .. كان بيتنا في محلة تسمّى “العنافصة” وربما جاءت التسمية من كونها كانت مرابط خيول وأن ناسها يترزقون بها. أو أنها كانت مكاناً لبيع الخيول في المدينة لأنّ “العنفصة” هي هياج ورفض الحصان .. على أية حال هو استنتاج شخصي لا وثيقة وراءه، ومن أين للفقراء وثائق آنذاك؟ لكن ما يعين أو ما يسوّغ لنا التقول، هو أنها محلة ترابيّة فقيرة تقسمها ساقية الى نصفين وتنتهي بفراغ، هو آخر ما ينتمي للمدينة.
ونعلم جميعاً أن في البلدات الفقيرة دائماً بقعة أفقر من سواها وأكثر بؤساً. ومثل هذه دائماً لا تسمى باسم أنيق ترقى به. فهي العنافصة وقربها “أم النوة” وأسماء مثل هذه تعرفونها حيث تكونون.
ونحن جميعاً، أعني اجيال المنبوذين أو المهجرين بلغة اليوم، ننتمي، ومنذ البدء، لمثل تلك الامكنة المجدورة ذوات الحيطان الطين وسقوفها التي من حُصر وجذوع نخل مشروخة نصفين، فتلك هي الارخص من الخشب والاقرب للفقر الذي يعرفه، ويعرفها الفقراء.
كان فرع صغير، سمّهِ بعض زقاق، ينحرف من ذلك الامتداد الترابي العريض، وبأربعة أو خمسة بيوت على إحدى جهتيه. هذا الفرع يقابله بستان من الجهة الثانية ويغلقه بستان فلا ممر وعليك ان تعود.
بين هذه البيوت، التي واحدها يتكئ على الآخر، بيت سكناه زمناً. لا بأس به. كان منزوياً، نعم. كان شبه محتقَر، نعم. ولكنه كان بيتاً واسعاً وفيه أربع نخلات نمد أيدينا لرطبها من السطح وفي هذا فرح للاطفال وأهلهم كبير، لاسيما إذا أنزلنا سلة صغيرة من الرطب في المساء. هي مباهج الفقراء، والقطاف بلا تسلق، كما تعلمون، مفرح للجميع ..
لم يكن “كلب سُكْنَة” أول الفرع، يؤذي أحداً. فأطمأن الجميع ومنهم أنا، ابن الحادية عشرة، وقد عدت مساءً بعد أن ارفضَّ اللعب وتفرّق الى بيوتهم الصحبُ يتراكضون ..
لم أكن مثل كل يوم، كنتُ مزهواً متباهياً قليلاً بدشداشتي الجديدة ذات الخرزة الزرقاء على القفا. وهنا فلتت من يدي الكرة “الچِبَن” لتتدحرج باتجاه الكلب.
لفزعه من الكرة واندفاعي وراءها، أو لشرّ كامن فيه ينتظر فرصته، أو أنه أراد أن يعلّمني درساً للمستقبل، هجم عليَّ وتمزّقت دشداشتي من الركبة اليمنى مع جراح منه ورعب، هو أول رعب “أناله” وكأن قال لي: لا فرح لكم أيّها الفقراء، انتبهوا حين تسيرون!
هرعوا إليَّ، حملوني وضمدوا الجراح وأنا مددٌ على سرير من سعف النخل. جاؤوا بشراب ساخن يطرد الخوف أو الشر ونمت ليلي أفزُّ صارخاً بين ساعة وأخرى وما انقطع تفقدي لشقوق دشداشتي الجديدة..
ليلة رعب عبرت وشهدت بعدها ليالي مفزعة كثيرات. لكن “كلب سُكْنَة” ما غادرني وقد كبرت ومرت سنين. بقيت أراه أمامي، ورائي أو متخفياً يمد رأسه يصغي أو يراقب ما أفعل. صار رقيباً منغصاً لحياتي. كنت صبياً بدشداشة مقلّمة وعلى قفاي نجمة خزف زرقاء وأنا اليوم شيخ وما أزال أخاف منه إذا تحدثت في شأن وأخاف منه في الطريق الى موعد. وحين امتهنت الكتابة صرتُ اسمع ما يشبه النباح أو الانقضاض أو أراه ينظر لي بغضب وعلى أهبة الهجوم، كأنْ استاء من بعض ما كتبت.
الغريب أنّ “كلب سُكْنَة” هذا يكبر كلما كبرت، يتغيّر حجمه. صار يجوب المدينة، صرت أراه وأنا أقرأ الصحف، أراه مهولاً مرعباً في مكان يهدد هذه الدولة وتلك وأنا، فرداً، ما أزال أخشى على نفسي وعائلتي منه فأنا قلق خائف حيث كنت، لا يخلو مكان منه. وما عرفته من بعد أن كل فرد صار له كلبٌ مثل كلب سُكْنَة يتابعه وينغص حياته ..
الاكثر غرابة وشناعة ان كلب سُكْنَة صار أكبر كثيراً وأبشع ويخيف الجميع. وبحجمه الكبير صار يربض في مركز العالم يتحكم فيه! تذكرت ما حدث لي وتذكرت الخبازة سُكْنَة حين قالت:
“هو ليس كلبي ولا علاقة لي به أنا فقط كنت أطعمه حين كان
جرواً ...”