يرى الكاتب عدنان فالح دخيل أنّه يمكنُ القولُ إجمالاً إنّ نيتشه اعتقَد أنّ الجنونَ هو الحالةُ الاعتياديةُ والطبيعيةُ التي اقترَنت بمصائر الرجالِ العباقرة والقدّيسين والأنبياء، ولا يمكنُ النيلُ من مكانةِ الجنونِ كونُهُ حالةً مرضيةً مألوفةً... وقد أرجَعَ نيتشه نشأةَ هذا اللبسِ إلى استنتاجٍ خاطئ لظاهرةِ الانفعال؛ إذ أنّ البشرَ عامّةً عندما لاحظوا أنّ الانفعالَ غالباً ما ينجمُ عنه وضوحٌ في الذهنِ وإيحاءاتٌ سعيدةٌ، اعتقدوا أنّهم يمكنُ أن يصلوا عن طريقِهِ إلى أسعد الإدراكات وأرقى الأفكار، و»هكذا وُقّر المجنونُ حكيماً ومانحَ معجزات»... مضيفاً في كتابه الصادر حديثاً عن جامعة الكوفة بعنوان (دوائر نيتشه.. جينالوجيا المفاهيم) أن الجنون هو الذي هيّأ الطريقَ للآراءِ الجديدةِ التي كسَرت شوكةَ العاداتِ والمعتقداتِ الخرافيةِ المبجّلة، ومن ثمّ، لن يبقى أمامَ جميع أولئك الرجال المتفوّقين، المدفوعين بدافع لا يقاوم إلى التحرّر من عبودية الأخلاق والأخلاقية وإعلان قوانين جديدة، حين لا يكونون مجانين فعلاً، إلّا أن يصيروا كذلك، أو يتظاهروا بالجنون، وقد عبّر أفلاطون، كما ذكَر نيتشه، عن كلّ ذلك بوضوحٍ عندما قال: «لقد كان الجنون وراء كلّ النِّعَمِ التي تمتّعت بها اليونان».
وفي مقدمته للكتاب، يشير الدكتور علي حاكم صالح أن لهذا الكتابِ روح مقالٍ: حديثٌ مستمرٌّ ومتدفقٌ لا يَفْترُ إلاّ لالتقاطِ النَّفس، للحَبكِ؛ ولا تني هذه العملية تتكرّرُ من أجلِ صقلِ حُبكةِ الكتاب. ولكنها حُبكةُ لا تُعرَضُ نسقياً، فالكاتبُ، عدنان فالح، يديرُ حواراً متعددَ الأطراف: ذاته، ونيتشه، وأطراف أخرى (هيدغر مثلاً) معنية بالحديث عن نيتشه، فتُستنطق هنا. (وثمة قارئ أيضاً سأشيرُ إليه). هو حوارٌ حيٌّ وخصبٌ، يودُّ الكاتب، كما يبدو لي، أن يُعرَضَ دفعةً واحدةً، ولكن تلك وسيلة (أو: أمنية) لا تُتيحُها تعاقبيةُ الكتابةِ نفسها، والكلامُ بطبيعةِ الحال، أعني تعاقبَ الزمانِ نفسهِ. لذلك سنشهدُ عوداتٍ لالتقاطِ الأنفاسِ، لالتقاطِ خيطٍ من الكتابة لم يُستنفد ليُضفَر بآخر، وهما كليهما بآخر، وهكذا، فتَستظهرُ الكتابةُ من ذلك، أو عَبره، حبكةً تظل تسعى نحو الاكتمال.
وعليه، يبدو الشروعُ في قراءةِ هذا الكتابِ كما لو أنّه استئنافٌ حديثٌ أو حوار، فالكتابُ ليس له نقطةُ بدايةٍ محددة، إنما هو يبزغُ، أكثر مما يبدأ، مستأنفاً حديثاً جرى أو ما زال يجري، وليس له نقطةُ نهايةٍ، ولكن قد يتوقفُ، لأنّه ينتظرُ استئنافاتٍ أو تكملاتٍ أخرى مقبلة. لذلك، يفترضُ الكتابُ قارئاً مُلمّاً إلى حدٍّ معقولٍ بنيتشه وفلسفتهِ، قارئا لا يبحثُ عن استنتاجاتٍ حاسمةٍ ونهائيةٍ؛ كأن نقول هكذا قال نيتشه، فذلك ليس من شأن من يكتبُ عن نيتشه من
أجل الفهم.
ويبيّن صالح أن عدنان فالح يكتبُ هنا من أجل الفهم، كتابة استغرقت سنواتٍ طويلةً، إذا عرفنا أنّ الكتابةَ ليست تدوينَ الكلمات. وفهُم نيتشه غايةٌ يمكنُ أن تُدركَ ولكن تحتاجُ إلى تجرّدٍ نسبيّ، فليس ثمة تجرّدٌ كاملٌ، وإلى أَن يجرّدَ المرءُ نفسَهُ لدراسةِ هذا الفيلسوف، فنصوصُ نيتشه تقتضي من دارسها «التلبُّث» طويلاً. إنّ الكتابة عن تجربةٍ فلسفيةٍ تنتمي إلى تراثٍ أجنبيِّ تقتضي جسرَ مسافةٍ من نوعٍ ما، تفصل بينهما. هذه المسافة ليست هوةً فاغرةً، ولكنها مع ذلك ليست مسافةً منبسطةً وسهلةً. من هنا كانت الكتابةُ عن نيتشه مجازفةً؛ لأنّ نيتشه مثلما لم يُسلس قيادَهُ لأفكارِ عصرِهِ، لذلك سمّي فيلسوفَ الشكِّ رفقةَ اثنين آخرين، لا يُسلس قيادَهُ لقارئِ المستقبل بسهولة، ولكن هذا (أو بسبب هذا) لم يَحُلْ دون وقوعِهِ في شبكةٍ من التأويلاتِ المتنافرةِ أو حتى المتناقضة، فتراه في كلِّ مرة يُصنّفُ ويقولبُ، أي يؤوَّلُ، بصورةٍ مختلفةٍ، ما يعني أنّ ثمةَ إمكاناً لأن ينزلقَ المرءُ إلى ترديدِ أحكامٍ عامةٍ ومسبقةٍ عنه، أو حمل نصوصِه، شذراتِهِ، على محملِ الظاهرِ والمباشرة، أو الاكتفاء بالعرض والتقديم السلبي العام. وهذه من جملة العقبات التي تعتَرضُ قطعَ تلك المسافة.
يتتبعُ هذا الكتابُ ولادةَ مفاهيم النصّ النيتشوي، ونموّها وتعالقاتها. والتعالقُ المفهوميّ، في فكر نيتشه، ليس نسقياً، لأنّ هذا هو أشدّ ما كان يبغضُهُ. ولكن لا شك في أنّ له خريطته المناسبة، وليس غيرَ الفهمِ الخاص من يرسُم هذه الخارطة. بمعنى على أي محور أو محيط يمكنُ أن نضعَ هذا المفهومَ أو ذاك في أصلهِ وحياتهِ وعلاقتهِ بغيرِهِ. وكلمةُ «الأصل» هنا تأتي مقصودة متناغمة مع تفكير نيتشه نفسه، الذي جنّد كتابته للبحث في الأصولِ التاريخيةِ، واللغوية من ثم، للمفاهيمِ السائدة في الفكر الفلسفيّ والإنسانيّ بعامة، إذ يحاولُ عدنان فالح هو أيضاً الحفرَ من أجل التبصّر في أصلِ مفهومٍ معيّنٍ في كتابةِ نيتشه، وكيفية تبلوره، وما الدلالاتُ التي احتازها في أثناء نموِّه في نصوصِهِ المختلفة، أو لنقل البحث عن السياقِ النصّي والتاريخيّ. وما يحتّمُ ذلك في هذه الدراسة، وهو حتميٌّ في كلِّ دراسة، أنّ كتابةَ نيتشه كانت، من بين أشياء أخرى، سجاليةً، لذلك اقتضى هذا الوضعُ من الكاتب أن يطّلعَ على أكثر من النصوص المعروفةِ لنيتشه، وقراءة رسائلِهِ كانت مفيدةً وضرورية في هذا الاتجاه، ليبنيَ سياقَ عبارةٍ ما أو مفهومٍ معينٍ، واقتضى منه، أيضاً، وهذا يمثّلُ أحدَ وجوهِ هذا الكتاب، الخوض عرضاً ومناقشةً في بعض من قراءات
معروفة.
يشار إلى أن عدنان فالح دخيل باحثٌ في مجالِ الفلسفةِ. درَسَ الفلسفةَ في جامعة بغداد، ونشَرَ دراساتٍ ومقالاتٍ في مجلّاتٍ عراقيةٍ وعربيةٍ. غادرَ العراق سنة 1994، ويقيمُ الآنَ في الولاياتِ المتّحدة الأميركية، ولاية كاليفورنيا.