عمرو العزالي
«بعد نشاط ثقافي استمر لثمانية وثمانين عاماً، وبعد نجاتها من أهوال الحرب الأهلية، ومن الحريق المروع الذي تعرضت له، ومن نزاعات تتعلق بحقوق الملكية.. تعلن مكتبة “كتالونيا” عن غلق أبوابها إلى الأبد”، بهذه الجملة الدرامية افتتح ميكيل كولومر مدير مكتبة كتالونيا البيان الخاص بإغلاق المكتبة، ثم تحويلها إلى أحد فروع سلسلة مطاعم “ماكدونالدز” للوجبات السريعة حول العالم.
وإن كانت الشحنة العاطفية تسيطر على بيان الإغلاق، فإنّه أوضح كذلك الأسباب المنطقية للقرار، فتحدث عن الأزمة التي كانت تعرضت لها تجارة الكتب، والتي أدّت إلى ركود بالمبيعات في السنوات الأخيرة، فاستحال معها مواصلة النشاط، رغم صمود المكتبة أمام تلك الظروف منذ نشأتها في العام 1924 إذ بدأت نشاطها، حتى ذلك العام الذي أغلقت فيه 2013.
وأوضح البيان الذي أورده خورخي كاريون في كتابه “زيارة لمكتبات العالم”، الصادر عن دار “العربي” المصرية بترجمة ريم داود، أن اتخاذ هذا القرار كان بالغ الصعوبة، وكم سبقته من محاولات للتوصل إلى حل مناسب، لكن ذلك كان متأخراً، حتى لم يكن بإمكانهم تأجيل هذا القرار، فحرصنا على تنفيذ جميع التزاماتنا المفروضة قبل إنهاء المشروع كان التأجيل سيؤدي إلى أوضاع أكثر سوءاً.
فالقرار لا يخص فقط مجرد إغلاق مكتبة، وإنما يخص رصداً لاستمرار طغيان الفكر الاستهلاكي وسيطرته على قرارات أصحاب رؤوس الأموال، كما يلقي الضوء على الأزمات القائمة من هوة تتسع دوماً بين إصدار المنتج الثقافي وأزماته تسويقه، ولعل هذا الإحساس بقلة الحيلة هو ما تسرّب إلى الجزء الأخير من البيان والذي جاء فيه “الآن، وفي المستقبل، وفي كل هيئة تتخذها الثقافة كي تنتشر، هناك أفراد ومؤسسات يعملون على إبقاء الأدب والثقافة المكتوبة بشكل عام، على قيد الحياة، لسوء الحظ لن تكون مكتبة “كتالونيا” جزءاً من ذلك المستقبل”. موقعاً أسفل البيان: برشلونة، يناير 2013. ولم تنفرد “كتالونيا” بهذه النهاية الدرامية، فقد تعرضت مكتبة “لا بوسولا” أو “البوصلة” الإيطالية للمصير ذاته بتحويلها في النهاية إلى مطعم، وكأن قصتها مأخوذة من اسمها، فإحدى مهمات المكتبات أن تكون (بوصلة) تحدد لنا اتجاهات العالم، حيث تقوم بذلك ببساطة، وبأدوات مختلفة نستطيع رصد اتجاهات العالم وميوله في فترة ما، فتحويلها إلى مطعم أظهر تحول بوصلة العالم من ثقافة القيمة إلى ثقافة الاستهلاك.
وقد نجحت هذه المكتبة الكلاسيكية أن تصمد سنين طويلة، طالتها خلالها مضايقات عدة تعرّضت لها من المكاتب العقارية، لكنها اضطرت بعد صراع سياسي ساخن ومحاولات للمقاومة والانتصار للمبادئ، إلى الخضوع للقوانين الاقتصادية العنيدة والباردة، واستسلمت وأغلقت أبواب مقرها – الذي يقع على مقربة من “آبل ستور” و”فناك” و”إل كورت إنجليس”- لتتحول في النهاية إلى أحد فروع سلسلة “ماكدونالدز”.
وقد اتخذ تحول المكتبات إلى مطاعم أشكالاً عديدة، منها ما تحول كلية إلى مطعم، ومنها ما تحول بشكل جزئي فقط بهدف كسر الشكل النمطي للمكتبة، كما حدث في تحويل مكتبة “لا كلاسيكا يي مودرنا”، والتي حولتها “ناتو” وشقيقها “باكو” إلى مساحة تجمع بين بار ومطعم ومكان لبيع الكتب وقاعة عرض للمعارض الفنية والحفلات الموسيقية.
وقد بدأت القصة حين افتتح تاجر الكتب المدريدي “فرانشسكو بويليه”، والد ناتو وشقيقها، تلك المكتبة، وفي العام 1980 توفي فرانشسكو، وهو أيضاً العام الذي أمر فيها المجلس العسكري بحرق مليون ونصف المليون كتاب من إصدارات “مركز أميركا اللاتينية للنشر”، وبعد سبع سنوات من الأنشطة التي لها طابع سري، عهد الشقيقان إلى المهندس “ريكاردو بلانت” لتحويل المكان إلى شكله الجديد.
وفي سياق مختلف، كانت مكتبة “فويلس” في لندن قد ابتكرت فكرة “الغداء الأدبي”، وصارت أشهر سمة للمكان، وبفضلها تناول نصف مليون قارئ غداءهم مع “ت.أس.إليوت”، و”إتش.جي.ويلز”، و”جورج برنارد شو”، و”وينستون تشرشل”، وغيرهم الكثير من الكتاب.
وتعود الحكاية إلى إيمان صاحبتها “كريستينا فويل” بفكرة الحميمية، وبإحداث قطيعة تامة مع التكنولوجيا، فتحولت المكتبة التي كانت تمتد خمسين كيلو متراً من الأرفف، بسبب الأفكار العبثية المطبقة فيها، إلى منطقة جذب سياحي، فمنعت استخدام الآلات الحاسبة، وصناديق الدفع النقدي، والتليفونات، وأي أجهزة تكنولوجية متطورة تخدم عمليتي البيع والطلب، ووقوف العملاء في ثلاث طوابير منفصلة ليتمكنوا من دفع قيمة الكتب، لكن هذه التصرفات الجنونية قد أثمرت تلك الفكرة غير المألوفة (الغداء الأدبي)، والتي مكّنت نصف مليون قارئ من تناول غدائهم مع ما يزيد عن ألف
كاتب. تولت كريستينا إدارة المكتبة من 1945 إلى 1999م، وبعدها اختفت مكتبة “فويلس” بصورتها المعهودة، لتظهر مرة أخرى في العام 2014 بنمط عصري، له ساحة كبيرة فارغة بإنارة بيضاء ساطعة، وتحيط بالساحة سلالم متتابعة متوالية، تنتهي في الأعلى بكافيتيريا مزدحمة على الدوام، ولو عادت كريستينا للحياة –وفق تعبير كتاب “زيارة لمكتبات العالم”- سوف ترى حائطاً كاملاً في المبنى الجديد، مخصصاً للاحتفاء بوجبات الغداء الأدبية التي اشتهرت بها المكتبة. ولعل القصص السابقة لتلك المكتبات تدعم قراءة المكتبة كأنموذج مكاني يمثل نسخة مصغرة من العالم بكل تحولاته، وكوسيلة لعبور الحدود المعرفية والثقافية وربما الجغرافية أيضاً من خلال الانتقال من رف إلى آخر بداخلها، ومن ثمّ كان من الطبيعي أن يكون ظهور المكتبات مرآة لتحولات اهتمامات إنسان هذا العالم، وبخاصة مكتبات بيع الكتب لا المكتبات العامية، حيث أن الأولى تفتقد إلى الدعم المؤسسي، إلا أنها مع ذلك تتميز بتجاوبها الجريء مع الجمهور وتلبية احتياجاته، لكن بمرور الوقت، يستطيع الزمن أن يوجه لها ضربته القاضية.