لا بدّ من الخوف بوصفه حالة طبيعية ضرورية يدرك فيها الإنسان الأخطار التي تحيط به ويعرف كيف يتفاداها ويقلّل تأثيرها عليه، مثلما لا بدّ من الأمل بوصفه النافذة المشرقة على المحيط والماحول والآخر، لأجل أن تستمرّ الحياة ولا تتوقّف ويظلّ لها معنى ما يتردّدُ في أصدائها وتجلياتها وخفاياها وزواياها، تُرى كيف يمكن أن تتوزّع مشاعر الإنسان البشرية بين ظلمة الخوف وبهجة الأمل؟ وكيف يغذّي أحدهما الآخر حين يتصادفان أو يتراميان أو يتوازيان؟ وهل حين يعمل أحدهما في مسار يتوقّف الآخر أم أنهما يعملان معاً في لحظة تاريخية واحدة وضمن ستراتيجية واحدة؟ ما هي حدود الخوف وما هي حدود الأمل؟ هل هما متقاطعان أم متوازيان؟
الخوف راهن وحاضر وأصيل وراهن دائماً في كلّ مقام وفي كلّ زاوية وفي كلّ كلمة وفي كلّ سلوك وفي كلّ لحظة، في الوقائع والاحتمالات، في الليل والنهار، في الفصول الأربعة، في القريب والبعيد، في اليقين والظنّ، في السماء والأرض، في الصمت والكلام، في الواقع والحلم، وثمة مثل شعبيّ يقول: “من لا يخاف لا يُخيف” فهو إذن من شيم الرجولة ضمن الحدود التي تحفظ الكرامة والهيبة والإنسانية، فالطبيعة مخيفة والظلام مخيف والموت مخيف وكلّ ما يهدّد الحياة والأمن والعافية والاستقرار والوداعة والهدوء مخيف، حتّى لكأنّ الخوف القسيم الأوّل والأبرز والأمضى للحياة بحيث لا قيمة لها بلا خوف، فالخوف على هذا النحو شجاعة وذكاء ومعرفة وتقدير وتوقّع وانتظار وتحسّب ومراجعة وانتباه واحتياط ورؤية، وربّما هو جُبنٌ وتقاعس وخطيئة حين يخالف الحقّ والحقيقة والإنصاف ويعبّر عن ضعف وتراخٍ وإذعان لمن هو أقوى بلا قانون ولا عدالة ولا صواب.
ترى كم يختلف الخوف عن الجُبن في هذا المقام؟ وهل ثمّة أنواع للخوف تتوافق أحياناً وتتعارض أحياناً أخرى؟ حين نعاين الخوف بوصفه حالة إنسانية طبيعية لا بدّ منها كي تكتمل الصورة البشرية للإنسان، ونعاين الجُبن بوصفه استجابة مطلقة ونهائية لحالة الخوف بلا نقاش أو تحفّظ أو مداراة أو سياسة أو مصير كي نفهم سرّ الصفة، نعرف عندها أنّ فرقاً أكيداً وحاسماً بين الحالين، فأنْ يخاف الإنسان ممّا يهدده أو لا يعرفه هو أمر طبيعيّ حين يحضر في الحياة ما هو قادر على الترويع وإمكانية البطش في لحظة خاطفة لا سبيل إلى مقاومتها إلا بأساليب ذكية بوسعها ركوب قارب النجاة على عجل، لكن أن يجبُنَ الإنسان أمام مواقف عادية لا تودي -في حال مجابهتها بحزم- إلى الهلاك فهذا أمر غير محمود ويخلّ بالشخصية والكرامة ومعنى الشجاعة الواجب، وقد يكون بين الخوف والجُبن أحياناً خيط دقيق لا يكاد يُرى يصنع هذا اللبس بين الخائف والجبان.
الأمل اختراع إنسانيّ نادر وشجاع وبالغ الأهمية والخطورة يدفع شاعر لامية العجم “الطغرائيّ” مثلاً إلى القول: “ما أضيق العيش لولا فسحة الأملِ”، وهو أبلغ تصوير لقوّة وجود هذه الفسحة مهما كانت ضيّقة ويسيرة في حياة المرء ليكون قادراً على الاستمرار بالحياة، في ظلّ منغّصات كثيرة يبدو أنّ الحياة اعتمدتها في أصل وجودها وتكوينها وليس من سبيل لتفاديها سوى التقليل من سطوة فداحتها بهذه الفسحة من الأمل، فهو الماء الذي يطرّي يباس الحياة ويُنعِش روحها ويقلّل من نار جحيمها التي لا تكفّ عن إطلاق لهيبها في الاتجاهات كلّها بوصفها ناراً أزليّة لا تخفت، الأمل بإيقاعه النوعيّ البليغ الذي يُعرفُ من أوّل ضربة على أوتار الكمنجة كي يتلبّث لحنه في الروح ولا يزول بعد ذلك.
الخوف كامنٌ فينا كما هو الأمل مزروعٌ فينا تماماً، هما ينبتان في ذواتنا كما تنبتُ الأفكار والقصائد والقصص والأحلام والذكريات والحدوس والظنون والأوهام والخرافات، ولا بدّ منهما أيضاً لأجل أن نعرف أنّ شروق الشمس يعني النور وغروبها يعني الظلام، وأنّ الأرض ماءٌ ويابسةٌ، وأنّ البشرَ رجالٌ ونساءٌ وشيوخٌ وأطفالٌ، وأن الموت والحياة لا يلتقيان إلا على الحافة الفادحة للافتراق، وأن لا شيء يسير على نسق واحد بقوّة واحدة وعزيمة واحدة وتطلّع واحد من بداية الرحلة حتى نهايتها مهما تصاعد منسوب الغرور، لا بدّ من الخوف كي لا نأكل اللهب مثلما لا بدّ من الأمل كي ننعم بنور اللهب وينضج خبزنا عليه، لا بدّ من الخوف حتى نحافظ على أقدامنا وهي تسير في الطرق الوعرة ولا بدّ من الأمل كي تتضاعف عزيمتنا دائماً ونصل، لا الخوف وحده بوسعه أن يحمي الإنسان من غوائل الزمن ولا الأمل وحده بقادرٍ على إسعاده وتوفير الأمن الدائم له، كلاهما ضروريّ وحتميّ وأصيل حتى يتحرّر المرء من كثير مما يقلق راحته ويجعله يحسب ألف حسابٍ للأشياء المفاجِئة التي لا توزن بميزان.
الخوف صنو الشجاعة والأمل صنو اليأس، من الخوف تولد الشجاعة ومن اليأس يولد الأمل عندما لا يتحوّل الخوف إلى مرض عضال واليأس إلى موت سريريّ لا شفاء منه، فالخوف إذن ثقافة مثلما هو الأمل ثقافة تخضع للتعلّم والاكتساب والذكاء والخبرة والتجربة، لا نخاف النار إلا بعد أن نكتوي بها أو يكتوي بها سوانا أمام أعيننا، ولا يشرق الأمل في نفوسنا إلا بعد أن ننغمر في حالة حزن مرير يمكن أن توصِلَنا إلى اليأس كي نعرف بعدها حلاوة الأمل.
الوجه هو المرآة الساطعة التي يتكسّر عليه صوت الخوف ويتجسّد في بؤبؤه صدى الأمل، لذا يستحيل نزع الخوف من سطح الوجه مثلما يصعب محو ضحكة الأمل من على شاشته، فالخوف يعلن عن نفسه بإشهار ووضوح وسلاسة ونعومة على الملامح والحركات بلا وسيط أو دليل، والأمل يرقص في المسافة القصيرة بين العينين الضاحكتين من غير حاجة لتفسير أو تأويل. وجهُ الخوف ووجهُ الأمل شراعان خفّاقان يرتفعان أعلى سفينة الحياة كي يعلنا عن وجودهما بصراحة لا تقبل الخفاء والطمس والكتمان.