منازل النسيان والذكرى

ثقافة 2019/10/12
...

عبدالزهرة زكي
 
• الشجرة في وحدتها
الشجرة التي تركتها وحيدةً هناك،
بقيتْ وحيدةً.
لقد استطالت كثيراً،
وارتفعت كثيراً.
وبقيت ليس لها ما تنشغل به في وحدتها
سوى هذا التعالي
حتى بات بإمكانها أن ترى من عليائها 
كلَّ شيء حواليها. 
وحتى أنها سئمت من هذا العبث غير المجدي.
 
ما الجدوى من كل هذا!
 
لقد استطالت حتى ما عاد طيرٌ يبلغها
ولا من أحدٍ، عابرِ سبيلٍ، يمرُّ بها
أو يرتقي إليها، 
وحتى إنها أخيراً لم تجد ما تنتبه إليه سوى ظلّها،
فالتفتت إلى ظلٍّ لها كان على الأرض
وقد يؤنسها في وحدتها
فانحنت إليه، قائلة:
يا ظلّي.
 
الشجرة التي تركتها وحيدة هناك
انحنت أخيراً.
 
• مقعد ظلَّ شاغراً
كان ذلك مقعداً لاثنين 
وكان قد ظلّ شاغراً
منذ سنواتٍ
منذ آخر ذكرى
وآخر لقاءٍ لهما حيث افترقا.
 
بقي المقعدُ شاغراً إلا من تلك الذكرى..
 
قريباً منه
يمرّ شيوخٌ أزواجٌ ما زالوا عشاقاً
وما زالت تلك الذكرى تديرُ رؤوسَهم بحزنٍ إليه..
حتى يتواروا عنه.
وتمرّ به فتيات يأملن بفتيان عشاق
يتطلعن إليه
ويتهامسن بذكرى المقعدِ والعاشقَين اللذين افترقا عنده،
ويمضين بعيداً عنه.
وعلى عشبٍ استطال وارتفع على قوائم المقعد تهبط طيورٌ كثيرةٌ
منتظرة الاثنين قبل أن تعاودَ طيرانها.
 
ما أكثر مَن مروا هناك
وانصرفوا.
لم يجرؤ أحد على الجلوس على المقعد..
لا أحد يقوى على نسيان تلك الذكرى التي خلّفها عاشقان افترقا.
 
لكن..
وفي صباحٍ باردٍ..
وفي اليوم ذاته الذي افترقا فيه
في اللحظة ذاتها
جاءت سيدةٌ وحيدةٌ بمعطفها الأسود الطويل
وجاء سيدٌ وحيد
كانت على ذراع كل منهما باقةٌ من رود
والتقيا عند المقعد ذاته
وتعانقا بعد كل تلك السنوات
وكان مطرٌ كثيرُ يهمي عليهما.
 
• كان يريد أن يتذكّر
من أجل أن يتذكّر ما كان قد حصل
جاءَ إلى المكانِ ذاته،
بقميصِه الأبيض المفتوح ذاتِه،
واتخذ المقعدَ ذاتَه.
وكان أيضاً هناك
مَن يرقب مجيئَه إلى المكان.
وكما نثَّ مطرٌ خفيفٌ في ذلك اليوم 
فقد نثَّ مطرٌ خفيفٌ هذا اليوم.
لقد كان يسمع أصواتاً كان قد سمعها،
ولم يميّزها 
في هذه المرّة ولا في تلك.
وإذ جاء إلى المكان ذاتِه،
واتّخذ المقعد ذاتَه،
وكما في تلك المرّةِ فقد صمتَ هذه المرة أيضاً،
وفغر فاه،
وفتح عينَيه على وسعِهما، 
وحدّق في عينَي مَن كان يرقبُه، 
حتى صارَ قميصُه أحمرَ لصقَ صدره، 
وقدماه غائصتَين، 
في بِركة الدمِ والمطرِ ذاتها.
وكان يريدُ أن يتذكّرَ شيئاً
ولم يتذكّر.
 
• ذكرى عطرٍ ما
حينما لم يكن أحدٌ جاء إلى ذلك المنزل
كانت هي قد جاءت إليه.
كان بريقٌ ما يندُّ من وجيبِ قلبها،
فيسبقها،
فيضيء ظلاماً سكن البيت.
وكانت للبيت أبوابُه، وقد أُغلقت منذ سنوات،
وكانت تفتحها لها يدٌ لا تراها.
وكان ارتعاشٌ خافتٌ من صوتِها 
يخلّف أثراً منه على جدرانٍ يمرّ
بها 
فإذا هي بيضاء.
وكان وردٌ قد تيبّس منذ سنين على شرفاتٍ في المنزل،
وكانت أصابعُ منها تلامسُ ورقَه اليابس 
فيحيا الورقُ
ويضوعُ من الوردِ عطرٌ
فتنهض ذكرى، 
ذكرى عطرٍ ما
في خاطرِ السيدة التي جاءت إلى منزلٍ
حينما لم يكن أحد جاء إليه
وظلت حيث هي 
راقدةً هناك، 
في المنزل المهجور،
على أثرٍ من عطرٍ ما..