عن التسكع الجميل

ثقافة 2019/10/20
...

ياسين طه حافظ 
 
من بين اصدقائنا، وعديد من اصحاب الحس المرهف والمزاج الناعم ممن يستريحون لسكينة الخاطر وسلام الافكار.. ، عدد من  اولاء يتركون اجسادهم وذواتهم للشارع الخالي او للمحطات او للمخازن او تمضي بهم خطاهم بين  مصاطب  حديقة نائية ، كل يريد ينسى ويريد صدفة قد تحين وقد لا يريد  يرى ولا يصادف بل يبقى منساباً تأخذه خطاه حيث تشاء..
عن هذه الحال أذكر  (( ستيفن ديدالوس)) و(( ليبولد بلوم)) ،  بطلي جيمس جويس في يوليسس وهما يتسكعان بلا هدف في شوارع دبلن، واذكر قصيدة  لجون  هولوي، من اوائل اشعاره بعنوان (( رحلة)) ، حيث يتخذ البطل مقعده في عربة القطار وحين يسأله  مفتش التذاكر ليقطع له، يجيبه : ))  الى أي مكان... )) ! فهو لايهمه أي مكان يصل اليه وكأن الامكنة بالنسبة له جميعاً بلا معنى  او لا تعنيه.
وفي كتابات من قرأت لهم من الكتاب  الجدد وما ينشرون في وسائل الاتصال، بث  كثير من هذا النوع. هي أحزان، هي احباطات وحالات أسى، هي (( لا ادرية))   وعدوى (( كامويه)) .هي حالات احساس بفقد وبلا امل في شيء. واحزان الكاتبات والشاعرات في هذا اكثر وضوحاً واوجع ألماً. هي شكوى عامة عن ظروفهن الصلبة الجافية والشعور الكامن عميقاً بالحيف.لكنني هنا، لا اريد التوقف عند ظاهرة التسكع بحدودها هذه فهي   احياناً تبتعد عن احوال القنوط والضياع او الشعور بالحزن. فتجد الفرد وهو في تمام السيطرة على نفسه والتمّلك لارادته ولا ضعف ولا سلبية ولكنها حالات سكينة في الصخب واستراحة في الاشتباك ، والاحساس العميق يان في الحياة خفيّاً حميماً  يلامس روحه وأن هناك سلاماً جميلاً وسكينة تستدعيانه . فيتحرر من  قنانته ومن شروط العيش وخزعبلات شؤوننا اليومية لتمضي  ذاته هانئة  بحريتها يأخذها السحر الناعم ولمسة الشوق والهواء الطلق. شخصياً،  افعل ذلك واعرف اصدقاء عديدين يماثلونني في الحاجة الى ان يخلوا بأنفسهم و بالكون حولهم. يتركون كتيهم ومواعيدهم واموراً كثيرة سئموا من تكرارها وأشكالها، ليضيع واحدهم نفسه في رحلة، في نزهة في  هدأة بعيدة  يختارها، او في تسكع يجد فيه سعادة او خلاصاً مما يثقل الرأس من اكدار. في كل حال هو مسعى لاسترداد العافية واللقاء بالحياة التي خسرناها.
مع هذين  ،  ثمة حال ثالثة هي التي أحال لها عنوان الكلام. فقد يكون من يمضي في ممرات حديقة او بلدة ، غير  معني بهذا  الامر او ذك، ولكن يلتقي، او يحس بجمال نقي قبل ان ينهال  الضجيج على العالم وتخض السكينة عرباتُ الرعب ودخان الحرائق والناقلات هادرة تمر. في تلك النزهات او في ذلك التسكع في الازقة القديمة حيث يكمن الماضي وتنام عوالمه او في  البساتين البعيدة او الضياع  في شوارع المدن يحسب ان روحه قد أمنَتْ وانها نَجتْ مثل بطل قصيدة الرحلة، التي ذكرناها..في حال مثل هذه قد تجيء ومضه  قاصدة، زائرة هي او ضيف ، روح أو رفيق تجوال، تلامسه، تمنحه شيئاً، تباركه، تشير لمسألة وتمضي. فيعود بفكرة للكتابة او برؤية لمستغلق ، يعود وقد استعاد سلامه..  فما كان  ضياعه او تجواله بلا جدوى . ها  قد عاد لغرفته لا كما غادرها، انتعشت روحه كما استحم بماء  عذب ولا مست عروقه مذاقات (( رِيّ)) نادرة لا ينالها كل 
حين. قال بلزاك، أو هاوثورن، .” الجنس البشري في عصر الثقافة الجماهيرية والتجارة يصبح بلا ملامح وقابلاً للتبديل والاستبدال”. الا يعطينا هذا  القول الصعب والمهم فرصة اخرى لتشخيص الحال؟ وان يكون هذا التسكع بجماله او بضياعه ويأسه، سبباً آخر، طريقاً , لنجد أنفسنا متفردة في الزحام، تريد  ذاتها النقية المتحررة، تريد “لا تشابهها” او”لا استبدالها”   تريد الا تكون “رقماً” في حشد عاملين او قامة شبيهة بسواها في زحام كبير؟ ثم الم  يقل النفسانيون ويقول معهم  متبني افكارهم، د.هـ . لورنس،  عن اعماق الفردانية التي لم يسبر غورها ، والتي تتطلع الى ساعة تتحرر فيها من الضغظ عليها؟
اذا نحيّنا كبرياءنا العنيدة وتزمتنا، ألا نشعر جميعاً، في يوم ، في ساعة، برغبة لان نهيم، لأن نتسكع؟ خطأ أن نرى الظاهرة بسيطة غير مهمة. هي نزوع إنساني للاحتفاظ بسلامة الذات  وقد تصل للاحتفاظ بانسانية الانسان. لا احد يريد ان يُغطَّي عليه، وألآ يُرى واضحاً  وسواء بين زملاء العمل او زملاء الكتابة اوبين الناس، هو يريد  ذاته الواضحة. الانغمار في العمل يصل حداً  تنهض عنده الروح لتقول “  كفى، اريد ان استريح! لا اريد ان اغرق، لا اريد ان امحّي واغيب. اريد نفسي واريد الحياة ! ايتها الحياة،  يا أمنا، ها  أنا اترك كل شيء وأجيء لعالمك الهاديء المغسول بالاضواء والهواء الطلق والسكينة فيه مدعاة عافية وفكرة مفرحة أعود بها ، هي هبةٌ منكِ،  ياكثيرة  الهبات..