أساطير اليومي ورماد الأحلام

ثقافة 2019/10/22
...

ناجح المعموري
 
لم يكن صعباً الاقتراب من عنونة ديوان الشاعر خالد الحلي الجديد الصادر في مدينة ملبورن الاسترالية عام 2019.
تكشف العنونة محنة الغربة وحياة الهامش وفقدان مرويات اليومي المغذية للذاكرة التي ظلت مكتفية بالخزان المحفوظ بالذاكرة من سرديات ، ما زالت حاملة رائحة الازمنة القديمة عندما عاش في وطنه . وعلى الرغم من التاريخ الطويل الموزع بين جغرافيات كثيرة ، كانت لها تواريخ وسرديات متزاحمة بعضها مع البعض الآخر ، ولم تستطع تلك الجغرافيات مساعدة الشاعر خالد الحلي على تخيّلات مغذية للذاكرة بما هو جديد.
واكتفت بما ينتجه الهامش غير القادر على مزاحمة ما انتجه المكان الاول وغذى به الذاكرة التي ظلت متحصنة بالمحفوظ وسط خزان محتدم بمروياته الدقيقة عن مألوفات حياته وسط مكان لم تعوضه الأمكنة العديدة عن الالفة التي فيه وطاقة الحب والتخيّل والاحلام . لذا تبدّت قصائد خالد الحلي في ديوانه الجديد [ لا احد يعرف اسمي ] دالة على اساطير يومية عنيفة بما تنطوي عليه وقاسية بما يتمظهر عنها من قوة ضاغطة تأخذ الذاكرة لتصوراتها المبكرة والعيش وسط المستعاد مع هول الغياب المستمر لمكان ضاغط بقوة مستعادة للشعرية السابحة فيه التي غابت وباقية حاضرة لان كل الجغرافيات لم تستطع الهوامش الحياتية والعزلة وسيادة الوحدة على الرغم من العلاقة مع الآخر ، لكنها علاقة سرعان ما تتلاشى وتغيب .
كشفت نصوص الديوان عن جغرافيات شاسعة مترامية ، لم تستطع تغذية ذاكرة الشاعر بالجديد المحفز له والطاقة المساعدة على تحويل صوغ المرئي والمتخيّل الى مغذيات للروح ، بل صارت بكل حشودها نوعاً من الأساطير اليومية التي أضفى عليها الشاعر خالد الحلي هذه الصفة وجعلها نوعاً من الأحلام العصية والصعبة . وهو مدرك بذلك ، لكنه لا يكف عن تحويل ملتقطاته الى أساطير ، لذا تبدّت حياته الآن في مدينة ملبورن مجموعة من الأحلام ملغومة بالأساطير والغرائبيات ، لأن الشاعر مازال غريباً ومطروداً وسط فضاء لم يكتشف فيه ولو مفتاحاً رمزياً يمنحه لحظة لفك القلب المغلق . وهذا ما ضاعف الإحساس بتحول المشاهد اليومية والمعروفات الى أساطير يومية تنطوي على معلومات مجهولة ، لأنها سريعاً ما تتلاشى ويلاحقها الغروب ، وتظل الروح العميقة السابتة متحركة ، راعشة في كل لحظة تغذيها الذاكرة الماضية . ومن كثرة الاستعادات المكشوف عنها في كثرة الاحلام في مكان تقشرت فيه بعض المخزونات الثقافية وتحولت الى ما يشبه الذكريات لأن المكان الجديد ضاغط وقاس ومدمر حتى لحظة تحقق الاندماج الكامل . ولكل هذا وجدت بأن حياة خالد الحلي ، من خلال نصوصه هي أساطير يومية ضاغطة ومعطلة لطاقته الآدمية ولم تنقذه الكتابة التي سرب بها كل الحنين والجنون وتكفي بلاغة هذا النص المكتفي بمعناه . نص قصير وموجز كتبه في بغداد آب 2010 :
بل اعط المفتاح لقلبينا 
فانفتحت مشرعة كل الابواب 
قدم خالد الحلي هامشاً عن هذا النص قال فيه . يعتبر شهر آب (أغسطس) أشد أيام الصيف حرارة في العراق ، حتى أنّ العراقيين توارثوا   شعبياً بقول " آب اللهاب يشلع المسمار من الباب " في النص مثلاً أسطورة يومية ، تكتم عليها الإيجاز وكشفها آب بسرديته الموروثة من السلف بوصفها ثقافة تقويم محددا ودقيقا بسرديات خاصة به ، مثلما هي مكونات التقويم المتداول في العراق كجزء من ثقافة عميقة تنظم حياة الجماعات وتجعلها متحوطة لتوفير الصون واستمرار النوع والغائب في الايجاز الشعري الذي ضغط على الحلم وجعله توقيعاً يفضي الى مروية لم تجد تفاصيلها الا في بغداد ، المكان المعتاد على حكايات يومية ، مألوفة ومعروفة ، هي دراما العشق والحب التي التقطها خالد الحلي ، بعد ان غاب عنها طويلا ً وطويلاً ولم يستطع ابداع او تكوين حكاية حب بالطريقة التي يريد ، وهنا تتضح لنا اسطورة مقاومة التفتيت الثقافي والاصرار على حفظ ما في الخزان . بغداد المستدعية له في فترة من أصعب ما يعيشه العراقي وأشارت له سردية آب على الرغم من عدم دقة ، لكن المعبر عنه واضح واستطاع الشاعر انتاج اسطورة الغريب العائد المطرود المنفي ، معطل الاحلام المزاحمة بأحلام لن تعيش طويلاً . ووجدت بأن المثل الشعبي الموروث ، ربما منذ لحظة ابتكار العراقي القديم تقويمه الدال على حضارته الزراعية دلالات عديدة ، تضع العائد أمام مخزونات هائلة من تجارب بغدادية ، وحكايات شهريارية ، استطاعت حضوراً جديداً ، بعد تغيب قسري طويل ، عاش فيه الشاعر تاريخاً من التشرد والطرد والغربة ، لكنه بالنتيجة قاوم كل قشور الامكنة وتباهى باستعادة المروية البدئية فوجدها حية بطاقتها  ، وشيوعها ولأغراض القراءة والفحص سأذهب نحو ضبط أكثر دقة للمثل كما اعتقد " آب يموع المسمار بالباب " وتكشف القراءة السريعة وجود رمزين هما المسمار / والباب ، ويدلان على ثنائية النوع الجنسي ، مذكر / مؤنث وتضيء سردية الايجاز دخول المسمار / الرمز الذكري داخل الباب / الانثى . وتحقق اتصال ادخالي ومثل هذا المعنى الغرائبي أخذ ذاكرتي نحو اسطورة سيڤا الهندي مع أوما واتصالهما الابدي . في هذا التأويل افراط ، انا ارى ذلك ، لكن الكامن المخفي على الرغم من شيوع سردية المثل ، قادني لفحص مفرط كما قال امبرتو ايكو .
كان شهر آب مجموعة من السرديات ، تتوزع على كل فترة عشرة أيام وتقدمه بدقة تامة . لكن المسكوت عنه في محكيات هذا الشهر هي مرويات الاتصال الادخالي المتطرفة في قبولها للفحص ، المسمار يذوب في الباب ويسكنه للابد بوصفه جزءاً منه . وقدم التعريف الذي قدمه خالد معنى مضاد للعودة ، لكن هذا التعاكس لم يستمر ، بل اخترقه الانتماء للمكان وتمظهر الحضور والفوز بمحكيات عن المرأة المرموز لها بالباب ، علينا ملاحظة استمرار دوران الرمز في هذا النص الموجز جداً . وواضح بأن آب عام 2010 هو المانح / الكريم ، السخي ، بسردية الحب ودنو خالد من المرأة المتشاركة معه بحيازة ما انفرد به آب من سخاء وكرم . أعطى كل منهما مفتاحاً واستطاع كل منهما فتح باب قلب الآخر . ولم يرد الشاعر خالد البابلي تقييد الانفتاح لهما فقط ، بل وسع من مساحة المجاز ، وعمّ الحب وتغيرت مهمة آب في نص خالد الانموذج في عودة غائب واستعادة بغداد لابنها وكرمته متوجاً برائحتها الانثوية وعاد الى ملبورن عراقياً سيعيش مع من يعرف اسمه وكأنه يعيش وسط جماعة .