{مدونةُ العاشق».. توظيفُ النص الغائب

ثقافة 2019/10/23
...

علوان السلمان
 
النص الادبي في كل محاولات الاستقصاء والاستنطاق تتخلله خلفيات معرفية تؤسس لأدوات اجرائية تقوم بعمليات حفرية داخل نسيجه البنائي فتسهم في الولوج داخل دهاليز مستوياته من اجل الوصول الى مكوناته عبر مغامرة تعتمد الاشتغال التحليلي والتفكيكي لمكوناته الجملية ،ابتداء من العتبة العنوانية في جانبها النحوي وتشكلها البنيوي، كونها تشغل حيزا فنيا ورؤيويا دالا من جهة ونصا مكثفا مفتوحا على التعدد الدلالي من جهة اخرى..فضلا عن انه علامة سيميائية دالة تحمل صيغة استعارية..مجازية تثير الدهشة والتساؤل بسبب الانزياح الدلالي مع انفتاح على التقاطعات الزمنية.
  وباستضافة النص الشعري(مدونة العاشق عند منتصف الحكاية) المنشور على صفحات ملحق جريدة الصباح (الثقافي) عدد 1 في 19/ 10/ 2016..الذي شكل الحسين(ع) بؤرته التي استظلت في ظلالها خيوط السردية الشعرية التي نسجتها انامل الشاعر عارف الساعدي..من اجل الوقوف على تشكلاته بناء ومضمونا واسلوبا ولغة..كونه شكل عبر مسالكه رؤى شعرية مؤتلفة ومتآلفة استنادا الى طبيعة مكوناته الفكرية والفنية والجمالية.
مطر قديم في القصيدة ينزل
لا توقــفوا يـده ولا تتبــللـوا
مطر يمر على تراب حكايتي
فيفوح طين والحـكاية تهطل
  فالنص يتأثث من موقف انفعالي يتكئ على حقول دلالية (زمانية/مكانية/حدثية/ وحدات ضدية..)..مع تكثيف العبارة وعمق المعنى بجنوح المنتج(الشاعر) الى التركيز والايجاز للتعبير عن لحظة مشهدية بصور متلاحقة وبصيغة حكائية..مما يمكنه من الانفتاح على تقنيات السرد الشعري البصري الذي يتطلب حضور المكان الحاضنة للفعل الشعري الذي هو(صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير..) على حد تعبير الجاحظ.
   فالشاعر يستثمر التراكيب البلاغية(المحاكاة والتخييل الذي يشتمل على(الاستعارة والمجاز والتشبيه..) لتشكيل صوره بابعادها المعنوية والنفسية المنتجة لعالمها الدلالي المرتكز على الاستعارة كبنية مصغرة متعالقة وبنى النص لتحقيق وحدته الموضوعية من خلال لغة الغياب الرامزة.
منذ اقترحتك في القصيدة غيمة
وانا اغــــني...والكــلام مبــــلل
غرقت بساحــلك النبي مواسمي
فمتى لنجمــتك البعــيدة ارحــــل
   فالنص يركز على الذات التي يسكنها انشطار مضاعف يربط بين اجزائه خيط رفيع من الواقع المأمول وهي تتأرجح ما بين امتدادين: اولهما امتداد الوجع الوجودي المقترن بمحاولة تجاوزه بخلق عوالمه الحالمة..وثانيهما امتداد مفروض عبر شبكة من الرموز التي ينصب وجودها في عالم الروح المتشظية والمتألقة بتجلياتها الفارشة لوجدها على امتداد الفضاء الزمكاني الذي يعد عنصرا بنائيا في هندسة النص الشعري ومكونا مركزيا في تشكيل الرؤى على مستويات متعددة.
 وانا القديم بنور وجهك سيدي
  كيف القديم يزوغ أو يتبدل
 وبأي زاوية تسلل من دمي
  حجر البداية والبكاء الاول
   لكنه حجر شديد في البياض
  ودافئ كالسر
  تجرحه الجهات ويقبل
   فالشاعر يهتم في بناء نصه على التشكيل البصري وجماليات التركيب والفاظ رامزة مركزة على اللغة المجازية التي تتجاوز التأويل والتفسير..لخلق صورمحققة لغرضين اساسيين: الغرض الفني والتعبيري الدلالي.
هو فطرة القروي اول قبلة
كانت بشباك الحسين تسجل
وهو الذي مازال  يحفظ صوت
من ناحوا عليه
وصوت من سألوا
ومن لم يسألوا
     فالنص ينحصر في العناصر المحايثة التي شكلت تراتبية موضوعاتية(الذات/الذات الجمعي الآخر/الزمان/المكان/الحدث..) لخلق صوره المبنية على التوليف بين ثنائيين ضديين ومفارقة اعتمدها الشاعر بوصفها(اداة تعبيرية لخلق مساحة التوتر في عملية الابداع الشعري ..)هذا  يعني ان النص ينطوي على الرؤية الذاتية..الوجدانية، اذ التغني بالذات والوجدان لاستنطاق واسترجاع الذاكرة زمانيا ومكانيا.
 ويعــود يسأل أمــه..هــل من ثواب
ربما قد ظل في اقصى المحلة منزل
فتلم ما في القــدر ثم تقــول يحفظك
 الحسين وحاذر المطر الذي لا يخجل
فأعود مبتلا ومزكوما وطين فوق
ارديتي الخجولة يرفل
فتقول لي كيف اتسخت؟
أقول يا امي هو المطر الذي لا يخجل
لا يستحي منا ولا يتململ
   فالنص تميزه بنية درامية ولغة منطلقة من ضمير المتكلم(الانا) وهو يتخذ مسارين شعريين متضادين(الواقع والحلم).. المعبران عن الحالة النفسية المأزومة بوحدة بنائية احتضنت الفعل الشعري والانفعال الشعوري..اضافة الى ان النص يحتفي بالاصل والذات الحاضرة ضمنيا داخل قالب تصويري..لذا فهو نوع من التصوير اللغوي الاحتفائي الملتحم بالذات الاخر والمؤرخ لها وللمكان.. فضلا عن ان الصور الشعرية التي وظفها الشاعر صور فنية تعتمد الرؤية والوثيقة المرتبطتين بالذاكرة التراثية والحس المرجعي والبيئة المألوفة.
ويبــوس شباك الحسين ويسأل
هل من حياة في الطريق نعيشها
أم سوف نبقــى عاشقين ونقـتل
   فالشاعر يوظف النص الغائب المستل من التراث واغنائه ليحقق مقصدية تقترن بخدمة الدلالة العامة للنص..وهذا دليل على حضور البعد الثقافي ووجود تفاعل وتداخل بين الازمنة(ماضيها وحاضرها)اضافة الى انها تسهم في تبديد الغموض النصي وحل طلاسمه واستنطاق ما خلف الفاظه وصوره الحسية الطابع والواقعية “المقصد” التي يرسمها ،اضافة الى  انها صور مألوفة الملمح وتراثية الامتداد المرجعي..وهذا يعني ان الشاعر لا يخلق صوره المجردة ..المتسمة بالغموض..بل أنها صور مادية محسوسة تتأرجح بين التعيين والتضمين والإيحاء ،فضلا عن توظيفه لبعض التقانات الفنية والاسلوبية كالتكرار الخالق لايقاعية ذهنية ،والنداء المحقق لخاصية التواصل  والرمز المكاني والتاريخي باستثمار طاقته اللغوية لتحقيق ضروب من الايحاء وتكثيف المعاني السياقية لعناصر الطبيعة(المطر/الغيم/النجم..) ليضفي عليها قيما رمزية تسهم في اغناء  معنى النص.
  وبذلك قدم الشاعر نصا تتماوج ابياته احيانا بقصدية صوب الحداثة بنثر تفعيلاتها التي يراد منها كسر الرتابة وتجاوز القوالب الجاهزة بالابتكار التصويري اضافة الى توظيف الميثولوجيا الشعبية وسلوك مسالك المغامرة الخالقة لنص يقوم على رؤيتين متداخلتين: الرؤية الذاتية ـ الوجدانية ،والرؤية المجتمعية والمثال الرمز.