يعد الشاعر الكولومبي {خوان مانويل روك} ساحر اللغة بامتياز، فتأمل قصائده يكشف عن عمق تملكه للوعي باللغة وسحرها حين يحولها إلى قصائد حميمة المعاني، شفيفة القول، ساحرة لأرواح قارئيها ومدهشة لهم بصورها واستعاراتها القلقة التي تتهم يقينهم وتدعوهم للتأمل بشكل مختلف، شكل يتجاوز التأويلات الجاهزة والمعطاة سلفاً للواقع اليومي، إنه يفتح لنا بوابة التخييل ليقدم صورة أخرى عن الواقع، صورة تسمو وتتعال عن كل ما هو تبسيطي فيه، لأن الواقع معقد ويستوجب إعمال التخييل لملامسة تفاصيله الحارقة، والشعر لا يكون شعراً إلا قراءة المستغلق ومحاولات الكشف والمكاشفة التي تفتحه على معان أخرى جديدة لا تسكن في المهيمن والقريب، بل تتجاوزه إلى الممكن والبعيد... هذا مقاله المترجم خالد الريسوني في مقدمة المجموعة الشعرية {صانع المرايا} لخوان مانويل روكا عام
2019.
ويرى الريسوني أن خوان مانويل روكا شاعر إنساني العمق، ملتزم بقضايا الإنسان عفوي وحميمي في تعييره عن القضايا التي يؤمن بها ويدافع عنها، لكنه لا يتنازل ابدا عن شرط الأدبية في التزامه المبدئي، بل يسكن في منفى اللغة يقيم في تخومها القصوى، ويصوغ قصيدته الشعرية الانسانية من كيمياء الصمت وظلال الزمن، حيث تتداخل الذاكرة بالنسيان، والواقعي بالذاتي، والفردي بالجماعي، والحميمي بالتاريخي، والمقروء بالمعيش، والجمالي بالشخصي في هذه الكيمياء التي لا تقيم حدوداً بين هذاوذاك.
ومن قصائد الكتاب المترجمة قصيدة “منفيون”، قال روكا فيها:(يقطعون مسالك القطارات/ التي في محطاتها البيضاء/ يتم السفر إلى النسيان/ رجال بلفتات من يعرف/ الحدود بين الهواء والسجن/ يتحدثون بلغات غريبة/ عن ضوء، وعن ريح جديدة).
تقول لوسيا استرادا، حسب المترجم، “إن تجربة خوان مانويل روكا، وهي تقتحم حدود الذاكرة، تستمر هي ديمومة الشهادة الاستعارية حدّ صيرورتها استعارة بسبب التعقيد الذي تشتمل عليه، يشكلها في ملمح عميق من المعرفة محيطها، الذي عند تقاسمه في دلالة القراءة يصل حد التحول إلى تجسيد لشعره، وحسب -غاستون باشلار: يصير “ الشاعر متحدثاً في عتبة الوجود”، وهو هنا الشاعر خوان مانويل روكا، مقيماً في “ الشعر باعتباره الشرط الفردوسي للغة”، حسب بول فاليري.. إن خوان مانويل روكا، وانسجاما مع ذاته والتزامه الأخلاقي والسياسي والادبي، ومع كل ما يثيره ويستهويه أيضا، يشيد علاقة حميمة وعفوية مع العالم والاشياء والانسان، لكن عفويته الشعرية تعده بمسافة كافية تجعله ينزاح عن الواقع نسبياً، وبالتالي مع مختلف آثاره ليحقق توازناً خلاقاً بين اللغة والحياة، أو ما يمكن أن نسميه الحياة داخل الادب في محاولة لتأسيس حوار بين الجمالي واليومي، بين الشعري والشخصي، وتلعب الذاكرة دورا أساسيا في إعادة صياغة اليومي والواقعي وترتيبه من جديد في كلمات تحقق للصورة التخيلية أعلى درجات الشفافية
والعمق.
وفي قصيدة “ أصوات وإشارات”، يقول الشاعر: (قد يحدث أن تقوم فتاة/ انطلاقا من الكون بإشارات/ أو يمكن سماع الغيابات/ تحت جناح الخيش/ أنغام المزامير النائية عن الدوائر/ والشظايا في السماء/ الريح تنسج فستان الزفاف من الغيابات/ مثل بينلوب ليلية بين الورود/ صوت يحوم حول مقامي/ صوت يعتقلني مثل غراب ماء قديم/ منبهرا بأضواء المنار/ صوت آخر يسأل عنكم في مدن الهواء/ في كثافة نباتات مغيبة الحسّ/ في النبات الليلي الطري/ صوت مسّه الشراب القمري/ يصل في السفر حتى الظل).
ويقول الشاعر التشيلي وفق المترجم، “غونثالو روخاس” في كلمة تقديم لأعمال “خوان مانويل روكا” المعنونة بـ “ابجدية الطريق”، قد أكون قرأت العديد من المتعلمين الذين لا يقولون لك أي شيء، الذين لا يضعونك في لحظة اشراق ولا يفتنونك، باللاحذق في عملهم.. وليس شأن روكا، الذي يعرف معنى القول.
إن أقول الأرض، إن يقول الزمن، إن يقول العالم. أقرا واعيد قراءة هذه الاوراق وأصغي إلى الهوة السحيقة فيها، المخاطرة، ذاك اللا أحد الذي لطالما جعله يرتجّ ولربما ينخطف.
وفي “قصيدة مع اللصوص” يقول روكا: (الليل يمنح مأوى لخطوات اللص الذي لديه خفة بهلوان على الجدران).
وولد خوان مانويل روكا في ميديين عام 1946، أمضى طفولته في المكسيك وفي ما بعد في باريس. عمل كمنسق لمجلة {الدومينيكال} لصحيفة {إسبكتادور} وهي ملحق ثقافي أسهم عمليا في تكوين جيل من الكتاب والشعراء، وكان أيضا مؤسسا لمجلة
{كلابي دي سول} وغيرها، نظم ورشات عشق الشعر ببوغوتا في بيت سليفا للشعر، وحصل على جائزة سيمون بوليفار الوطنية عام 1993، جائزة الوطنية للشعر 2004، وغيرها الكثير من الجوائز في الصحافة والقصة والرواية، نشر عدة دواوين شعرية منها “ ذاكرة الماء، قمر العميان، رسائل من الحلم، علامة الغربان، كتاب الفروسية، ذاكرة اللقاءات، وغيرها”.