{ما وراء الشتاء» حكاية بلد اسمه تشيلي

ثقافة 2019/10/26
...

هدية حسين
 
 حين تتاح لنا فرصة اقتناء أي رواية من روايات إيزابيل الليندي فإننا نتوقع أن تأخذنا هذه الكاتبة إلى مديات يشتبك فيها الإبداع بالسحر وبالدهشة، هذا هو عالمها، خلطة من سحر ودهشة وتواريخ موغلة في القدم ورحلات لا تنتهي وعواصف طبيعية وسياسية وعاطفية، وعجائب وغرائب تحمل رائحة بلدها تشيلي.
"ما وراء الشتاء" الرواية التي ترجمها صالح علماني وصدرت عن دار الآداب، تقع في 382 صفحة، تبدأ أحداثها في شتاء طويل وعاصفة ثلجية لا تهدأ، وتمتد على زمن طويل وتتخطى حدود تشيلي الى عدد من دول أمريكا اللاتينية، وعلى الرغم من أنها رواية حب الا أنها لا تقف عند حدود العلاقة بين ريتشارد ولوثيا، بل تتناول بتفاصيل كثيرة معاناة المهاجرين الى الولايات المتحدة الأمريكية، أولئك الذين يهربون من الحروب والقتل والفقر ،يأتون إليها من تشيلي والمكسيك وغواتيمالا وغيرها من البلدان المبتلاة بكل ما يسحق كرامة الإنسان.
 إيزابيل ألليندي المعجونة بتراب بلدها تشيلي على الرغم من أنها هاجرت منه منذ العام 1973، إلا أن جميع شخصياتها تحمل همّ ذلك البلد وتحمل سماته أينما ذهبت، بل وتتوغل في تراثه منذ تأسيسه وهجرات شعبه وثوراته وانقلاباته وتضاريسه الوعرة وأمطاره وشتاءاته القاسية وعلاقاته بالدول المجاورة التي تتشابه في تضاريسها ومناخاتها الاجماعية والسياسية، وهكذا سنرحل وندخل عمق تشيلي ونذهب الى عدد من تلك الدول لأن أحداث هذه الرواية متشعبة في المكان وفي الزمان أيضاً. 
قصة الحب تبدأ في عمر متأخر بين لوثيا وريتشارد، تفرضها الأحداث التي تتشابك وما يترتب عليها من تقارب بين الشخصيتين، فلوثيا المهاجرة أصلاً الى الولايات المتحدة الأمريكية منذ صغرها، تعمل في إحدى الجامعات في بروكلين، يجمعها السكن في العمارة التي يمتلكها ريتشارد ويعملان في المكان نفسه، تحلم هذه المرأة الستينية بإقامة علاقة معه، لكن الرجل له طقوس خاصة فهو يضع حدوداً بينه وبين المستأجرين ويبدو منعزلاً، ولم تستطع لوثيا كسر عالمه ودخول شقته الا بعد حادثة السيارة التي صدمها حينما كان عائداً من العيادة البيطرية حيث أخذ قطته المريضة الى هناك، كان الاصطدام بسيطاً والمرأة التي تسوق السيارة شابة صغيرة تدعى إيفلين، وهي من المهاجرين غير الشرعيين الذين يعملون بعيداً عن القانون، تعمل إيفلين عند عائلة من زوج وزوجة وابنهما المعوق حيث تقوم على رعايته، وقد اضطرت الى أخذ السيارة من دون علم مخدوميها لشراء حفاظات للطفل فحدث ذلك الاصطدام، كانت خائفة جداً إذ كيف ستعود وتعرف العائلة ما فعلته؟ وعلى الرغم من أن ريتشارد طمأنها وأعطاها عنوانه لتتكفل شركة التأمين بتغطية النفقات الا أنها لا تريد العودة الى العائلة التي تعمل لديها لأن من شأن ذلك طردها وأيضاً ستكون الشرطة على علم بذلك، لذلك تعود الى ريتشارد في الليلة نفسها مع اشتداد العاصفة الثلجية، ولأنها تتمتم بلغتها غير الواضحة فإن ريتشارد يستعين بجارته لوثيا لأن لغتهما واحدة، وهكذا تدخل لوثيا شقة ريتشار وتتسارع الأحداث بطريقة دراماتيكية، يحاول كل من لوثيا وريتشارد إقناعها بأنهما سيوصلانها الى مخدوميها ويشرحان الأمر لكنها تفاجئهما بأن هناك في صندوق السيارة جثة امرأة، لتسير الرواية بعد ذلك سيراً بوليسياً، ولا تلتزم  بتسلسل زمني واحد، ولا في مكان واحد، فكلما ذُكرت شخصية في سياق الكلام أخذتنا إيزابيل الليندي الى تاريخ تلك الشخصية وارتباط ذلك الشخصي بحال البلد والأوضاع السائدة فيه، لنجد أننا نقوم بسياحة عميقة وكثيرة التفاصيل، وندخل عالم العصابات والقتل والاختفاء القسري ومعاناة المهاجرين في الهروب والتخفي وما يلاقونه من إهانات وجوع وأمراض، ولا تنسى المؤلفة أن تذكرنا بقصة الحب التي بدأت ببطء شديد بين لوثيا وريتشارد منذ تلك الليلة التي دخلت فيها إيفيلين شقة ريتشارد، قصة لم تخطر على بال الرجل الذي ظل قلبه محصناً من النساء مدة خمس وعشرين سنة، وسيشتركان منذ تلك الليلة بالتعامل مع الجثة وكيفية إخفائها بعيداً عن أعين الشرطة.
لم يكن ريتشارد يريد أن يكون رجلاً خارج القانون، لكن لوثيا حين علمت بأن ايفيلين مهاجرة غير شرعية تعاطفت معها، فهي الأخرى هربت من بلدها بأوراق مزورة بعد مقتل أخيها، وقصة ايفيلين تتشابه في إطارها العام مع قصة لوثيا، غير أن ايفيلين فقدت أخويها، الأول قتلته العصابة التي انتمى إليها بسبب خيانته لها، ولم تكن تلك الخيانة سوى زيارته لعائلته، والثاني قتلته انتقاماً من الأول، وكانت تبحث عن ايفيلين لقتلها، وسنقرأ الكثير من الصفحات عن عائلة ايفيلين وأمها التي أودعت أولادها لدى الجدة وهاجرت بسبب الفقر لتساعدهم عن بعد، ثم تتزوج وتنجب بعيداً عن العائلة، وما حدث في أثناء غيابها لسنوات، وبين رحلة طويلة عن هذه الشخصية أو تلك تعيدنا إيزابيل الليندي الى قصة الحب وكيف استطاعت لوثيا أن تهشم الجدران بينها وبين ريتشارد الذي ورطته بنقل الجثة الى مكان بعيد يتجاوز حدود بروكلين والبلاد كلها، العبور الى إحدى المدن الكندية على الحدود لمعرفة لوثيا بتضاريس كندا لأنها عملت لفترة طويلة هناك، وما سيصاحب ذلك السفر من أهوال تجيد صنعها إيزابيل الليندي، ومع تلك الأهوال تنمو قصة الحب على الرغم من أنهما، لوثيا وريتشارد يقفان على أعتاب الشيخوخة، لقد أعادته لوثيا كما لو أنه رجل في الثامنة عشر من العمر.
ربما جاءت فكرة قصة الحب في عمر متأخر من واقع إيزابيل الليندي، فهي عاشت قصة حب بعد السبعين من عمرها، وقالت وقتها إن الحب ليس له عمر معين، فحاولت أن تقنعنا، نحن الذين نشيخ في الخمسين أو قبل ذلك
 بكثير.