الريادة والحداثة والأجيال

ثقافة 2019/10/26
...

زعيم نصّار
 
الشعر هو الحياة المقبلة داخل الإنسان المؤهل من جديد
رينيه شار
 
أولى القصائد التي وصلت للإنسان في هذا العالم، هي قصائد عراقية كتبها شعراء سومريون، بعض الذين أعرفهم وقرأت لهم، دنجر أدامو، ورنجي أواما الذي رثى مدينته لجش بمراث فاجعة، وكانوش كادرو المعروف كأول شاعر عراقي وصل نتاجه لنا، مع الشاعرة انخيدوانا قبل سبعة آلاف سنة من الآن. 
والذي يقرأ قصيدة أحد الشعراء السومريين المجهولين التي جاء فيها:
 
لقد نَـفَــتـْـنا الآلهة
غرباء حتى مع أنفسنا
نجوس أزمنة التأريخ والمستقبل
دون قيثارات
هكذا كان حكمنا الأبدي
رحلة بحارة يعشقون النبيذ.
 
يطرح على نفسه أسئلة كثيرة من نوع : أي حداثة مشعة في هذه القصيدة؟ كأنها مكتوبة تواً، فما الذي حدث كل هذه السنين تحت لافتة التجديد والتحديث، المصطلحين اللذين اعتمدهما بديلاً لمصطلح الحداثة الغامض، هذا المصطلح  الذي انتجه العقل النقدي مع تسميات أكثر التباساً وأبعد غموضاً وتقديساً، كمصطلح الجيل والريادة والحداثة، تسميات تنفي الجديد، تقفل الابواب وترمي المفاتيح في النهر. اساطير تختتم فلا بدايات جديدة، ولا أنباء تتنزل.
ان فكرة الريادة تأخذ شكل الهيمنة والابتزاز، وكأن باب الارتياد أقفل أمام خطى الشعر العراقي الجديد، وكأن الريادة الأولى صنماً مقدساً لا يمكن ازاحته بريادات أخرى، الريادة هي فكرة الابتكار التي تنوجد في كل قصيدة جديدة مختلفة، ولذا فكل شاعر مختلف يبتكر ريادته، وهذا ينسحب على تاريخ الشعر العراقي كله، من هنا الشعر العراقي عرف ريادات متنوعة وكثيرة من الشاعر السومري صاحب هذه القصيدة المشعة – لقد نفتنا الآلهة، مروراً بأبي نواس الشاعر الرائد المطوّر والمجدد، مع بشار بن برد الذي أسس ريادته الخاصة برؤى تختلف كلياً عما سبقه من فتوحات شعرية في الشعر العراقي، وصولاً لريادة السياب بآفاقها المفتوحة على ريفها، وريادة البريكان المختلفة بمدينتها ، حتى ريادة سركون بولص وفاضل
 العزاوي.
من خلال هذا الفهم الشخصي للريادة نجد لكل شاعر مفهومه الخاص عن التراث، وعلاقته المميزة مع ما سبقه من قصائد، ومن الممكن ان نقول ان لكل شاعر جديد زمنه الشخصي المختلف وزمنه الشعري المتحول المنقلب على الزمن العام للشعراء جميعاً، ان قراءتي لكل القصائد العراقية السابقة وعلى مدى آلاف السنين، هي قراءة شخصية، وربما اعتبر ان هذ التراث هو تراثي الشخصي، ولم يكن تراثاً عاماً.
 
إزاحة الأقنعة 
هكذا تمتد هذه الفكرة لتمسّ فكرة الحداثة ايضا. قانون التحديث يرفع حاجز التقديس ويسعى الى تقويضه، الشاعر الذي يكون بمستوى متطلبات حداثة القصيدة، عليه ان يكون منشغلاً بتعددية الحداثات وتنوعها، ليؤسس حداثته الشخصية المختلفة. 
ان التوجه الى الكتابة الشعرية الجديدة هو أيضا توجه لتأسيس لحظة تحديثية جديدة، وريادة جديدة ونصوص جديدة قادمة، هذا هو منطق القصيدة. يتشكى مالارميه دوماً من ان  معاصريه لا يحسنون القراءة جيداً، وهو بهذا يشعر ان كل ما عرف سابقا بقي على حاله بأشكال أخرى، ويؤكد فاليري: ان ما يثير الدهشة في اسرافات مجددي الأمس هو دائما الخجل. الخجل من الدخول إلى المناطق البكر، المناطق الانقلابية في النتاج
 الشعري. 
الشعر العراقي كما هو معروف، فعل وهوس وهوى كما انه قدرة وتجديد دائم وتغيير للحدود الفاصلة. انه يعيش في الاستباق بين الفن والحياة وبين الحب والمعرفة. فالمعرفة الصحيحة تقتضي نقض المعلومات السابقة، واماطة القناع عن وجه مجهول في الشعرية
 العراقية. بينما يخاف الشعراء المحافظون من فكرة التحديث، لأنها تجرحهم وتصيبهم في الصميم
، وتقوّض بنيانهم القديم الذي شيدوه.
 
عقدة التناكر
اما فكرة الأجيال التي اصطنعها العقل النقدي التقديسي، وتفاعل معها بعض الشعراء الضعاف، خلقتها عقدة التناكر بين الشعراء. الشاعر القوي الواثق من نفسه لا يحتاج لجيل يسنده، ولا يسعى لتحطيم الشعراء الآخرين، قبله أو بعده،  وما هذه الخطوط الحمراء المرسومة بين شعراء "خمسينيات وستينيات وسبعينيات وثمانينيات وتسعينيات" الا تناكر وصراع لا يصلح للشعر حالاً، ولا يفتح للقصيدة أفقا
 جديداً. هل تكفي عشر سنوات لتكوين ملامح شاعر وتحديده هويته؟
ان عقدة التناكر بين الشعراء تدل على الخوف من الآخرين وعدم ثقة بالذات، ان من يحصي شعراء العراق الذين استمروا بالكتابة منذ ثلاثين عاما، يجد المئات في داخل البلاد، ومثل هذا العدد خارجه. الشعرية العراقية، شعرية هائلة، نجد فيها حداثات متنوعة وريادات جديدة، ونصوصا رائعة، خاصة في السنوات المحصورة بين سبعينيات القرن الماضي والعقد الأول من الألفية
 الثالثة.