ياسين النصير
يمسك أحدنا كتابًا ليقرأه، كما لو كان يمسك شريحة من العالم ليتفحصها، الكتاب مدينة، أو محلة فيها، وعليك كي تتجول في أزقتها وشوارعها أن تعرف أنها مبنية من الكلمات، ولا يصلح التعامل معها إلا بالكلمات، من هنا تبدأ رحلة القارئ مع القصة، الرواية، ديوان الشعر، التاريخ، النقد، البحث التراثي، الجغرافيا، اللغة...الخ، ويشعر القارئ أن ثمة جملا وعبارات غير مفهومة في ما يقرأه، كما لو كانت أزقة لا علامة دالة عليها، والقارئ المستعجل سيتجاوز هذه الجمل والفقرات، لأنها لا تعنيه ظلالها وأبعادها، إذ يكفيه منها ما تؤلفه من معاني عابرة، على سبيل المثال لو قرأنا كلمات مثل: الطبيعة، العقل، الكون، الإنسان، المناخ، السماء، الشمس، التراب، الماء...الخ، سيعتبرها القارئ العادي ضمن المعنى الذي تكونه الجملة ، أما القارئ القارئ، لن يتجاوز الكلمات الآنفة الذكر من دون أن يتعرف على أبعادها الدلالية المختفية في ألفاظها: كما لو كانت الكلمات بيوتا في تلك المحلة وعليه ان يتعرف على هندستها وغرفها ومساحاتها ومادة بنائها، فالبيت طبيعة، والطبيعة ليست ما نراه في أشيائها المعطاة، ولا الماء هو ما نشربه أو نستحم أو ما يسقي الأرض أو ينزل مطرًا، ولا الإنسان هو الحيوان الناطق من بين الحيوانات التي يصلنا صوته، ولا أي مفردة يمكنها أن تحيلنا على جملة ناقصة المعنى. لذلك يحتاج القارئ القارئ، إلى البحث في مجالات اشتغال الكلام، بينما لا يتعب القارئ العادي نفسه بتتبع ظلال الكلمات، لأنه غير معني بان يكون مهندس البيت القصصي يعرف طبيعة المجتمع، وثقافة السكن، ومصادر مواد البناء، لذلك يكون القارئ القارئ مشروعًا نقديًا تستوطنه
الفلسفة.
لا نقصد عندما نقرأ كتابًا أن نذهب إلى الفلسفة، لتفسر لنا أن الماء والحرارة ينتجان المطر، وأن الماء والنار ينتجان كيمياء الأشياء وأن المعدن والنار ينتجان فلسفة الخيمياء، ولسنا معنيين بدوران الأفلاك والنجوم حولنا، ولا بتطور الرؤية للكون وارتباطها بالفلسفة منذ أفلاطون وحتى اليوم، ولكن نحن معنيون كقراء نصوص أدبية بالخزين الذي تحتويه كلمة مثل: الإنسان،الطبيعة، العلم، الفكر،الماء، النار، التراب، الرياح، الشجر، الصحراء، الشمس، القمر، الكون،...الخ، لأن هذه الكلمات ليست مؤلفة من الحروف، بل هي مختلقة من مواد ترتبط مع مواد أخرى بوشائج مصاهرة تكوينية، وعندما ترد جملة مثل “كانت بلاد بابل ميدانًا لعلوم الفلك”، علينا أن نذهب إلى ما تخفيه كلمات هذه الجملة من معارف، وألا نقف عند معلومة عامة عن أن بابل كانت ميدانًا لعلوم مختلفة، مكنت انسانها من أن يكتشف الكواكب والكون والرياضيات والكتابة والقوانين، بل نحن معنيون بالكيفية التي يوظف النص هذه المرجعيات تلك الثقافة، على القارئ القارئ أن يذهب إلى الفلسفة من خلال ما يقرأه.
تحدثني حفيدتي، أنه منذ سنوات بدأ الدرس في المانيا يضخ معلومات أولية عن افكار الفلاسفة الألمان، ثم اتسع المجال ليقرؤوا لنا شيئًا من انتاجهم ، ثم طلبوا منا البحث عنهم. الآن تحدثني الحفيدة عن هيجل وماركس وشوبنهاور وغيرهم، عن توجهاتهم والمراحل التي ظهروا فيها من دون أن تتعمق في تضاعيف فلسفاتهم. إن تسليح الشباب بمزيد من المعارف تمكنهم عندما يقرؤون نصوصًا أدبية عليهم ان يدركوا انهم في غابة غابة المعرفة. تقول حفيدتي: ليس غذاء الجسد الطعام فقط. ، لكل عضو له غذاؤه من الثقافة.
نحن لا نطلب من قارئنا القارئ عندما يقرأ الشعر أو الرواية، أن يحيل ما يقرأه إلى الفلسفة، ولكن لابد أن تصاحب قراءته الأعمال الأدبية، شيء البحث عما وراء الكلمات.