لقد شهدت الشعرية عبر تاريخها انعطافات تتوافق والتحولات الحضارية التي رافقتها حركة التجريب معنى ومبنى..ابتداء من عمود الشعر ومرورا بقصيدة التفعيلة فالنص النثري الكتلي وانتهاء بالقصيدة القصيرة جدا(الومضة)..التي هي شكل من اشكال الحداثة الشعرية المجارية لحركة العصر ومتطلباته باعتماد مبدأ الاقتصاد في الالفاظ وتجاوز الخطابية
فضلا عن تعبيرها عن لحظة انفعالية تتوخى الايجاز وعمق المعنى وكثافة الايحاء لتحقيق خطاب اتصالي يثير الانفعالات ويستفز الذاكرة عبر نسق جمالي متداخل والفعل الشعري والاستدلالي في تكوين موضوعي قائم بذاته يجر الذاكرة لاستعادة الصياغات المقطعية الشعرية اوما يسمى بيت القصيد تاريخيا.
وباستحضار المجموعة الشعرية ( وانت تلمعين اصابع الوقت) التي نسجت عوالها النصية الجامعة ما بين النص القصير والقصير جدا.. انامل منتجها الشاعر عمران العبيدي.. واسهمت دار لارسا في نشرها وانتشارها “2019” ،كونها تأسيسا قائما على الاضاءة الشعرية المكتنزة فكريا ووجدانيا باتكائها على ضوابط فنية وبنيوية معبرة عن لحظة شعورية مكثفة خالقة لحقلها الدلالي والايحائي ومنسجمة
وعصرها..
وأنا خارج النص
أرسم قصيدة غيابها
ارضاء لكف تحاكي
قصة العناق
على مهل أجرجر الفجر
ربما... تطل فتمطر ابتسامة
تنسيني أرق الليل /ص13
فالنص يتخذ مسارا نفسيا ووجدانيا مع تركيز وتكثيف الصور المشهدية التي تشكل مجموعة من التداعيات التي تتوظف بقصدية لتحقيق مقولة النفري الصوفي في كتابه (المواقف والمخاطبات) ـ كلما ضاقت العبارة اتسعت
الرؤية ـ
بدفقات شعورية موجزة التراكيب الجملية المتميزة بانسياب صورها المكثفة الموحية وخيالاتها المتوهجة وحساسيتها
المرهفة..مع تركيز على الانزياح والدلالة اللذين يعدان من الاشتغالات اللغوية والحسية والبنيوية داخل النص الحداثي الوامض..فضلا عن توظيف التكنيك الفني (لغة شعرية/ صورة شعرية/ موسيقى شعرية (داخلية وخارجية) تنطلق من بين ثنايا الالفاظ المشكلة للفكرة
المقتنصة.. المتفردة ..المؤطرة باطار الوحدة الموضوعية مع مفارقة تصويرية مباغتة لتحقيق الدهشة والايحاء الشعري..المحركان للذاكرة المستهلكة ودعوتها للتأمل والكشف عن كوامن النص.
أمازح
الارتعاشة بين كفينا
الصمت لا يحتمل الوقوف
على شفاهنا
نختزل السكون
بقبلة تشاكس فضول المارة
ذاكرتي تحيك صمتي
اشجارا تفيض بفيئها
لحظة الاشتهاء /ص63
فالنص بمجمل تحركاته الرامزة ودلالاته اللفظية الدرامية المعبرة عن الحالة الشعورية والنفسية باسلوب دينامي حالم..وعمق دلالي يتداخل والسياق الجمعي بقدرته التعبيرية المختزلة لتراكيبها الجملية..فكان تشكله وفق تصميم ينم عن اشتغال يعتمد الجزئيات وينسجها نسجا رؤيويا عبر تقنية درامية مؤثثة بالتداعيات...متميزة بتراكم الصفات التي اسهمت في الكشف عن توتر نفسي عبر نسق لغوي قادر على توليد المعاني من اجل توسيع الفضاء الدلالي للجملة الشعرية..اضافة الى ان صوت المنتج الشاعر هو الحاضر الذي يمنح النص خطابا يغير الضمائر(انا أمازح) و(نحن نختزل) و(هي تفيض) وينثر رؤاه من خلالها كخلفيات مشهدية..اضافة الى انه يشتغل على بنية الغياب والحضور المؤطرة بالموحيات الحسية والمكان(الارتعاشة بين كفينا) الذي يتخذ حيزا فاعلا كونه يتواشج مع البعد النفسي عبر لغة شعرية ترسخ نفسها في الذاكرة بتوظيف تقنيات فنية كالتنقيط المساحة الجمالية الدالة على الحذف التي تستدعي (المستهلك) المتلقي لملء بياضاتها وتأثيثها المتفاعل وفضاء النص..وتقانة التكرار النمط الصوتي والدلالة النفسية الاسلوبية الدالة على التوكيد والكاشفة عن المشاعر المكبوتة
للمنتج..
ربما افض اشتباك حدسي بكِ
وربما اتوارى في مكان آخر
لملء حواشي نص أضل الطريق
أقف عند مرآة تلعثمت بتجاعيد الخراب
تنزع أقنعة نظراتي المغلفة بالحذر
أحاول ان اكون.. وأخوض حبك بكثافة
ربما لا يفهمني مدمنو الانتكاسات
أو سماء تدلت بتأويل مشروخ
هي محاولة لشطب المحاولات الفارغة
ربما نستطيع... وربما نكون /ص83
ففاعلية الصورة في النص تقوم على مدركات عقلية تكشف عن وعي فكري..باعتماد بناء قائم على حوار ذاتي يعبر عنه المنتج بيقظة..ناقلا احاسيسه وازمته النفسية الى آفاق
موضوعية..
مع تركيز على الذات الانسانية كثيمة فنية
قلقة.وبذلك قدم الشاعر نصوصا تمازج ما بين المشهدية والحدثية بتجاوزها الواقعي صوب الجمالي التخييلي المحفز للذاكرة..وقد تميزت بعلامتين مضيئتين:اولهما:البنية الدرامية.. وثانيهما اللغة المنطلقة من ضمير
المتكلم (انا)..