في الازمات يختلف الواقع الثقافي عن الحالات الطبيعية ، اذ سيبرز السؤال الاستفهامي الخطير : أين المثقف؟؟ وهذا المثقف الذي يتساءل الكل عنه هو الشخص القادر على فك الاشتباك ما بين من يفهم الامر كما يبدو عليه وبين الباطن الذي هو غالبا صورة اخرى مختلفة تماما عن الصورة الظاهرة للعيان.
اغلب المسكوت عنه والقابل لخلط الالوان هو ما يظهر في اوقات الازمات التي لا تتطلب تنظيرا فلسفيا او تسويفا لفظيا او تزويقا انشائيا بقدر ما تستوجب وضوحا تفسيريا يعطي للمجتمع اضاءات واضحة تنير كل منعطفات الظلام الذي ان استشرى وجوده سيأخذ المجتمع الى مناطق يصعب التخلص من اثارها تماما.
“المثقف المتفرج “ والمتوافر ايام الازمات هو المثقف الزائف المزدوج الشخصية الذي لا يجيد الا تصدير نفسه والتفرج على الاكف التي تصفق له فيما هو ينزوي بعيدا اذ ما لوحت له ذات الاكف بحثا عن صوت قوي يجيد استخدام اللغة ليكون صوت “ الوطن” الحقيقي و” الانسان” النبيل الذي يعرف ان امام مجتمعه مخاطر قد تثلم مسيرته ان لم يسهم بدوره الريادي في تقديم كل ما يعمل على وضع الخطوات والافكار في نصابها الصحيح .
شعراء كبار كان صوتهم مدويا في المحافل والتجمعات الشعبية وهم يقودون مجتمعاتهم بصوت حقيقي يرفض خلط الاوراق أو الاسهام في تفتيت لحمة وطن لا بد ان يقف الجميع بإزاء أي محاولات لتهديمه أو افشال مسيرته ، كان صوت الرصافي والزهاوي والجواهري والبياتي والسياب والحصيري والكاظمي حاضرا في ازمات الوطن ، ولم يعملوا على تزويق المواقف لتظهر وكأنها لا علاقة لها بما يجري وانها تعزف خارج سرب الوطن ومشاكله ومستجداته ومع الشعراء كان الكتاب هم اول من سجل مسرحيا وقصصيا وروائيا تاريخ العراق المعاصر بعيدا عن زيف كتاب التاريخ السياسي ومحاولتهم طمس الحقائق لتظهر بطريقة ترضي الحكومات المتعاقبة .
المثقف صوت الانسان الحر الذي يشير بإصبع العدل والمساواة لكل مظاهر التخلف والاستلاب والاستغلال ولا يقبل ان يساوم على “ وطنه” ومستقبله ارضاء لنزوات ورغبات واجندات قد تؤدي الى ما لا يحمد عقباه ويدفع المجتمع ضرائبه صاغرا عن كثير من سلبيات متلاحقة.
هذا المثقف ليس المطلوب منه الجلوس في قاعات باردة الاحساس بل ان يكون دائما قادرا على قيادة المجتمع ليقدم له الرؤية الحقيقية لمجريات لا تحكمها الأهواء والامزجة بقدر ما تعتمد الصدق والصراحة والحقوق والواجبات ما بين السلطة والمواطن ، وهي ثنائية لا يمكن تغليب احدهما على الاخر بقدر ما يتوجب الامر ان يقدم كل منهما ما له وما عليه بأسلوب حضاري وقانوني واحتجاجي منظم بالعقل والمنطق والاحساس بالقيم العليا دائما.
لم يعد المثقف بدلة انيقة وصوتا جهوريا ووجها تحت الاضواء وصخب هتافات وخطابات رنانة ، بل هو صورة المجتمع ووعيه الانساني والفكري، القادر على الكثير مهما شح القليل عن مواكبة مسيرة الانسان ونماء وجوده الفكري المعطاء في كل مجالات حياة تنتظر من الابناء المؤازرة وتطويع الصعاب وصولا الى غد آمن يؤمن بالسلام والحوار وليس بالعنف
والصراع.