تثير مجموعة النصوص (جسدُها في الحمّام ) للشاعرة ابتهال بليبل، من منشورات احمدالمالكي – لعام 2018 وهي نصوص مفتوحة لا تنتمي لأي جنس من الاجناس الأدبية، تساؤلات مهمة، حان الوقت لكي توضع على طاولة النقاش، لأن هذا النوع من الكتابة، لا يمكن أن يجنس، أو يشكل حالة انتماء لأي جنس، فهو يحق له أن يأخذ لمحة من هذا وذاك، من دون أن يتصل به، أو يحمل شيئا من ملامحه، إنما يستطيع أن ينهل من تلك الأنواع الى الحد الذي يستطيع فيه أن يتنصل قبل أن تكون له حالة انتماء، وهذا النوع من الكتابة حر مطلق، لا تحده قواعد أو أصول، أو أساسيات وادوات وطرق وأساليب تناول تلك الأجناس، التي تعبر لهذا النوع حالة من القيود التي تفرض عليه، وتحد حركته، فيتلون ويتنوع في التناول، قد يكون مع القصة ليأخذ منها حكايتها، ويكون مع الشعر لاستعارة مفرداتها الانزياحية لتشكيل النص، ويكون مع السيرة، ويكون مع التداعيات الذاتية الروحية، ويكون مع الخاطرة، ومع المذكرات، ومع ألسنة الأشياء، وقد وجدت في هذه النصوص للشاعرة بليبل، الدقة والاتقان في إحالة تلك النصوص الى النص المفتوح، كونها لم تنضو تحت أي جنس من الاجناس، وحاولت جاهدة ألا تظهر تلك الملامح في مبنى النص المفتوح، ولم يأت ذلك من دون دراية، أو دونته وتركت تأويله للمتلقي، بل لأنها على يقين بأنها تكتب نصا مفتوحا حرا طليقا، كونها استطاعت ومنذ إطلاقها في تدوين تلك النصوص، لأنها أكدت أن كتابة النص المفتوح يحتاج الى معرفة وخبرة ودراية تامة بأساليب وادوات كل جنس، وعلى من ينبري لكتابة النص المفتوح، أن يكون قد خاض غمار تجربة كتابة تلك الأجناس وعرف عنها الكثير، لأن هذه المعرفة سوف تؤهله الى التناول الصحيح بالسياق الفني المطلوب من دون أن تتصل كتاباته أو تنحرف لتنتمي لأي جنس دون أن يعلم، فالشاعرة بليبل استطاعت أن تزج المتلقي في هذا العالم، وتؤهله للالتصاق بهذا النوع منذ بنية العنونة، وكذلك اختيارها لعناوين النصوص، التي تحمل أكثر من تأويل
ومعنى:
(المقص كائن مفترس، جسدُها في الحمام، الكوريغرافيا وحياتنا الخفية، عطر يؤجج خيالك، كوافير..هابيتون الأنثى، سفينة الحمقى وزورق المجنونات، اسطح البيوت تثقل راسك بالشوق، علكة “ابو السهم” ومغامرات رأس الزقاق، كانسر، جوارب واحذية بكعوب عالية، غرفة شرسة، كلائش، بنات المدرسة،
أكياس، بيتزا).
وهكذا عندما نولج عوالم تلك النصوص، فسوف نجد مدى ارتباط بنية العنونة لكل نص مع متنه، وعمق اتصاله وارتباطه، وكيف يكون أداة مهمة وأساسية في تشكيل النص، بل أنه البؤرة الرئيسة التي من خلاله تتشكل ملامح النصح، ونجد المستهل الذي سوف يشير الى حقيقة ما ذكرناه، فهو دعوة واضحة لخوض غمار تجربة النص المفتوح ( إلى رجل سينشغل بالمرايا: لا مشوهة غيري، فلا تنظر،
وألاّ تملصتُ.) أما النص المفتوح «المقص كائن مفترس» فهي تحيله الى كائن حي، تألسنه ليرتبط معها وفيها ويدخل أعماقها، فيتلون مع تلك الانثيالات الانسيابية بإيقاعها المتزن، لما يعني المقص في مهمته الحرفية، ودخوله ضمن ثيمة النص، وارتباطه بحياة الانثى، التي نتابعها ونحن نغوص في سبر
اغوار النص.
( المقص اليوم ظلي، ظلك.. يظهر توحّدنا العشقي.
إنه فوق منضدة أو داخل جرار خشبي، أو ربما في زاوية تتجاوب مع الإقصاء أو النسيان.. المقص.. رغبتك الموجودة حيث أنا داخلك عارية ذاهبة في أعماقها حد الرحيل, ومشوار طويل على بُعد اتجاهين حادّين..) ص5
وهكذا يتبين لنا مدى ارتباط المقص بالحالة النصية، وحالة التداعيات، ومحاولة الشاعرة أن يكون جزءا مهما من عملية التدوين، وسوف يتبين لنا بأننا سنمر بحالات مشابهة لأشياء تشكل تكوين النص، وكذلك سنتابع حركة وهي تمارس طقوسها اليومية، وتحيل هذه الطقوس الى نصوص مفتوحة تناجي فيها
كل طقس. وننتقل الى طقس آخر من طقوس المرأة في حياتها اليومية، وهو الحمّام، وما سوف يثيره من تداعيات وأفكار وذكريات ومناجاة، إضافة لحالته الطبيعية حيث الاغتسال والماء والجسد والبخار: (لكني أعجز أحياناً حتى من عبور خطوة واحدة نحو باب الحمّام، وأتركه دوماً لمزاج الهواء، لتجّرب الحسرة إغلاقه. وكثيراً ما أراني في امرأة دخل جسدها قبلها ليدوس على شيء, شيء ما تعبر خلفه..). ص 17
ثم ننتقل الى حالة أخرى، حيث نعيش طقوس الحزن والالم، وتداعيات المرض الخبيث في النص المفتوح “كانسر”: “(أخبرني الطبيب أن أمي قد تفقد – ثديها- لكن روحها لن
تتضرر.
كانت تنهداتها تزداد مثل سنابل ناضجة عندما تضمّني وقد مال لونها كعتبة بيت قديم. ابقى مستيقظة لبضعة ليال قربها، أفكّر في اهتزازاتي مثل ورقة في طريق
منحدر).ص 79
ثم ننتقل الى طقس آخر من الطقوس الأنثوية وهي تنصهل وتعانق وتنسجم لتشكيل النص المفتوح، فنعيش مع «بنات المدارس»: (لقد كنّا، مثل لصات نتسلل إلى خارج الصف بنات متمردات لا يتآلفن مع الدراسة لندخل سطح بناية مدرستنا القديمة، ونضحك كثيراً بلا شك على باقة الممنوعات المفروضة علينا..) ص 132
وهكذا فإن بقية النصوص تستعرض طقسا من طقوس المرأة التي انضوت بين ثناياها وتحاكي الشيء الداخلة ضمن بنية النص، التي تبدأ من
بنية العنونة.
مجموعة النصوص (جسدُها في الحَمّام) للشاعرة ابتهال بليبل رحلة موفقة في ثنايا النص المفتوح، الذي كتب بوعي ودراية تامة عن مفهوم وطريقة تناول النص المفتوح، وقد كان اسلوبها في طرح الثيمات وتناول تلك الطقوس، باسلوب وإيقاع وانسيابية منسجمة، خالية من أي زوائد او ملل، حيث وفت الجانب المهم المتعة والتشويق والمتابعة.