محمّد صابر عبيد
الثقافة العربية ثقافة ذكورية على نحوٍ جذريّ متكامل منذ العصر الجاهليّ حتى الآن، وربّما تزداد ضراوة ذكورية في توالي العصور وتقادمها على نحو يسحق تماماً عنصر الأنوثة في أسفل المجتمع وقاعه المظلم، ويجعله تابعاً ذليلاً لسلطة الذكورة ولا يسعه العيش إلا محمياً بها ومسبّحاً بحمدها وراضخاً لفحولتها المطلقة، حتى حين يتقدّم أحد العصور حضارياً في وجوه الحياة المختلفة
يبقى هذا التحضّر لا يشمل المرأة وكأنها عنصر خارج الكون الحضاريّ ولا تصله أنوار الحضارة بسهولة ويُسرٍ، والغريب الفاجع هو الشيزوفرينيا الحضارية والثقافية التي يعيشها الإنسان العربيّ في التعامل مع أصناف المرأة بعقلين متناقضين (شاذّين)، فثّمة المرأة الأخت والزوجة والأم والبنت من جهة، وثمّة المرأة الحبيبة والعشيقة من جهة أخرى وما يندرج في سياق هذين الوصفين من صفات ونماذج أنثوية مختلفة، إذ يكون في غاية الغطرسة والذكورية والتسلّط مع الصنف الأول الخاضع والمُذعِن، وفي غاية التحضّر والتمدّن والشفافية والأريحية مع الصنف الثاني، وهي ازدواجية يتّسم بها العربيّ في هذه القضية وفي غيرها أيضاً بحيث صارت من سماته القارّة التي تُظهِر مستوى تخلّفه
ورجعيته وغبائه.
ذكر الأصفهاني في كتابه الشهير «الأغاني» أنّ أحد خلفاء بني أميّة أوعز إلى والي المدينة بـ»إحصاء» المخنثين من المطربين، فالتبس على الوالي رسم حرف الحاء بحيث قرأه «خاءً» فأمر بإخصائهم. إنها بلا أدنى شكّ حكاية بالغة الإثارة بوصفها نادرة دالّة على طبيعة العقل الشاذ الذي يحكم به الوالي المدينة التي يتولّى أمرها ويدير شؤون الناس فيها.
كيف يمكن تفسير هذا الالتباس لوالٍ (نفترض جدلاً) أنه لا تنقصه الحكمة ولا الفصاحة ولا سلامة النظر ولا الاستشارة حتى يختلط لديه حرف الحاء بحرف الخاء في مفارقة إنسانية مدوّية؟ فسلامة الرؤية والرؤيا من أوّل أولويات توليةِ الوالي في دولة تسعى إلى العدل والمهنية والقانونية وشريعة الإسلام، على النحو الذي يجب أن تكون له عين فاحصة قادرة على تمييز الحاء من الخاء في
أسوأ الأحوال.
المحتوى الذهنيّ لهذا الوالي تتحكّم به مجموعة من القواعد والأسس والقوانين الاجتماعية والثقافية المتداولة والمتفق عليها ذكورياً، التي تجعله يخلط بين الحروف وقت الضرورة ووقت الحاجة التي يقدّرها ويصطفيها ويقرّها، وهو ممتلىء بيقين لا يأتيه الشكّ من خلفه ولا من بين يديه مطلقاً لأنّ المؤسسة الذكورية العليا التي تسنده وتدعم ولايته على الناس، تغفر له مثل هذا الخطأ الفادح بسهولة لأنه ليس فادحاً بنظرها إنما هو سوء فهم بسيط بين حرفين متشابهين، وتقيّده فوراً بوصفه سهواً بسيطاً (وجلّ من لا يسهو) لتتحوّل القضية إلى مجرّد حكاية تتناقلها الأخبار والمدوّنات على سبيل التندّر وتزجية الوقت.
تقع فئة المطربين المخنثين في الثقافة العربية القديمة موقعاً وسطاً حرِجاً بين الذكورة والأنوثة بما لا يعطيهم حقّ الذكورة أو الأنوثة ويمنعهم من الانتماء لأحدهما، لتكون فئتهم طارئة ومحيّرة وقلقة لا ينطبق عليها قانون اجتماعيّ معيّن فيصبحون بإزاء ذلك مطيّة لاجتهادات المجتهدين وفتاوى المفتين، من دون أيّ إحساس محتمل بالذنب إذا كان أحد هذه الاجتهادات قاسياً على نحو ما فعل الوالي الأمويّ فأخصاهم بدل أن يحصيهم، وتحولت الحكاية إلى طرفة يرويها صاحب الأغاني على هذا النحو الباعث على الضحك لا على البكاء في إهمال واضح وكبير لهذه الفئة التي لا نصير لها.
التفريق الجنسيّ بين الذكر والأنثى هو تفريق بايولوجيّ في المنظور الاجتماعيّ السائد وليس ثقافياً كما تقول النظرية الجندرية، وعندها لن تكون هناك مشكلة في التعامل مع فئة الوسط (المخنثين) لأنّ أسلوبهم التخنيثيّ في ممارسة الحياة واقع في منطقة هلامية غامضة ومشوّشة بين ثقافة الذكورة وثقافة الأنوثة، وهو خيار ينهض على أسباب وعوامل كثيرة جداً ليس من السهل حشدها في إشارة ثقافية واحدة عابرة، وينبغي النظر إليهم بوصفهم بشراً قبل كلّ شيء لهم حقوق وعليهم واجبات، بحيث يبدو الخطأ الذي اقترفه الوالي الأمويّ جريمة كبرى بحقّ الإنسان بصرف النظر عن التوصيف المُخلّ الذي يصادر هذا الحقّ، وينبغي أن يحاسب عليها القانون الذي يجب عليه أن يحفظ حقوق الجميع فهم سواسية لا فرق بينهم على أساس الجنس أو العرق أو اللون أو الدين أو أيّ فارق دينيّ أو اجتماعيّ مهما كان، فالإنسان أمام القانون هو واحد ما لم يرتكب جُرماً أو تعدياً على حقوق الغير أو الإخلال بالأمن الاجتماعيّ
أو الوطنيّ.
يمكن معاينة عملية الإحصاء بوصفها عملية ذات طبيعة حسابية تدخل في أدق جزئيات عمل الدول الحديثة، التي تقوم على إحصاء سكانيّ يشمل عدد الذكور وعدد الإناث بفئاتهم وأصنافهم وأشكالهم (أطفال/شباب/شيوخ/معاقين/أصحاء/ متعلّمين/أميين....إلخ) لمعرفة الفضاء الإنسانيّ الذي تعيش فيه هذه الفئات ووضع خطط التنمية المستقبلية على أساس معطياته ونتائجه، فهي عملية ذات خصائص إيجابية عالية المستوى لا يمكن لأيّ دولة حديثة إغفالها أو التقليل من خطورتها أو التعامل معها على نحو دَوريّ علميّ منتظم، وإذا ما شئنا على وفق هذا المنظور مقارنتها بالعملية الواردة في صلب الحكاية والمتعلّقة بعملية الإخصاء سندرك حجم الفرق الحادّ والهائل الحاصل بينهما، على الرغم من أنّ اللغة على صعيد الدالّ والصوت لا تضع بينهما فرقاً سوى النقطة التي تعتلي الخاء وتفتقدها الحاء
فحسب.
الإحصاء فعل حضاريّ عالي القيمة لدى كلّ شعوب العالم المتمدّن بينما الإخصاء جريمة يرتكبها المتخلّفون لأسباب سياسية في الغالب، وبما أنّ الإحصاء فعل متنوّع الأداء ويصبّ في مآل واحد فإنّ الإخصاء فعل أكثر تنوّعاً ولاسيما حين يتنقّل –مفهوماً- بين الأداء الفعليّ الجسديّ الحقيقيّ والأداء الفعليّ الرمزيّ، ونتيجته أنّ المخصي الجسديّ يخفق بعد الإخصاء في القيام بفعالياته الجنسية المعروفة في حين يخفق المخصيّ الرمزيّ في التفكير بطريقة ليبراليّة حرّة تضمن موقفه الطبيعيّ السوي من الأشياء.