صورة بانورامية لحلم الطفولة

ثقافة 2019/11/01
...

محسن ناصر
 
تقودنا عدسة الصبي (وسمان) الى بيت الجن: (بيت أثري منعزل، قديم، صامت، موشك على السقوط، يعلوه برج، أخذته اللقالق عشا لها، وهو يطل على المدينة بشبابيك ملونة وأدراج مقفلة، ويحيط به سور من الخارج، ويلفه الغموض والقدم. ولهذا عافه الناس وظنوا به بيت تسكنه قصص الجن الذين حولوه الى حصن تقتل من يقتحمه، ويدخل في باحته، حتى يتحول بمرور الزمن الى جني يزاول مهنة السرقة).
وسمان يقودنا الى البيت المنعزل، في مشهد خارجي سينمائي. ندخل معه الزقاق المؤدي الى باب ضيق.
هذه اللقطة الكبيرة، تهيئ القارئ الى رغبة في كشف اسراره 
المخفية.
هل يستطيع الصبي أن يغامر؟
( تحرك شيء في داخله، مدفوعا برغبة الكشف)
كان فعل الصبي كبيرا، أكبر من عمره، اذ تحرك بلوامسه وحواسه كلها. والقارئ معه، يترقب فعله، مدهوشا، ماسكا على قلبه من بيت يسيطر عليه الجبروت والمهابة، والصمت العميق الذي يخفي حياة سرية، وغموضا عمره عشرات السنين.
استجمع الصبي شجاعته، واقتحم المنزل، بغية الصعود الى البرج.
(آملا في الحصول على صغار اللقلق والظفر ببيضه. وحين يصل، يتبادل الصبي المواقع مع اللقلق المتخيل يطير به الى الغيوم، ازاء كوكبة من الطيور المحلقة على مقربة 
منه)
نجح وسمان في مغامرته التي عجز الكبار في انجازها، بل كان الكبار وراء صنع حكايات الجن في البيت القديم المنعزل.
هو خائف أول الأمر، لكنه يقرر اعداد خطته ( خشبة طويلة “ سقالة”، تصل سطح بيتهم بسطح البيت المسكون. ثم ينزل الى الداخل، نازلا الدرج المتهالك صائحا: هو، هووو.
ولم يلمس كائنا، ولا جنيا. ثم ارتقى العش، فماذا وجد؟
وجد “ بضع ريشات بيض، ذروق، قش وأعواد”. وقف وسمان داخل العش. متأملا السطوح والبيوت والشوارع التي تغمرها الشمس. وخيل اليه ان اللقلق سيأتي ويحتضنه، ويطير به الى الغيوم ثانية عاليا- عاليا).
(فرش يديه، وفردهما، مثل جناحين متأهبين للطيران. وابتسم وصرخ: جن، جن، وهو يضحك وبدا كأنه يطير فوق السطوح مثل لقلق يدفعه الهواء الى أعلى، بينما كانت الطيور تحلق في دوائر واسعة، لا تلبث أن تضيق وتفر منسحبة، متعجبة من وقوف الطير الى الشاخص فوق بيتها المنعزل القديم).
هل كنت الطيور فعلا، تتعجب من وقوف الصبي. أم هو احساس الصبي، أو السارد وقد تلبسته مغامرته المدهشة. أو هي لذة اكتشاف العالم السري المخيف، وقد أضحى عالما عاديا، أمام الأنظار.
****
القاص جنان جاسم حلاوي، يقدم لنا صورة بانورامية، عذبة الايقاع لحلم الطفولة، في اجتياز حاجز المجهول. ومحاولة رؤية ما يدور خلف الأسوار المحرمة، والتطلع بعفوية نحو الذرى والصعود نحو
 البرج.
ان حلم الصبي بالطيران، وارتقاء الأعالي، يمثل تمردا لا شعوريا، على صلابة الواقع، ومنطقه الصارم. اللذين برع الكبار في نسجهما، أمام براءة الطفولة.
وهذا التمرد، أتاح للصبي فرصة الانفلات من الأسر. لتحقيق سمو روحي، نجد صورته، في تأهبه للطيران، وفرحه الغامر في تحقيق حلم يقظة، ساوره ذات يوم.
***
نص جنان الحلاوي، فيه الكثير من الاقتدار اللغوي، انه أقرب الى قصيدة مرئية، ذات تلوينات لحنية صنعت بلغة النثر القصصي الجميل: أناقة المفردة، والدلالة والعمق، والدقة في احتواء المعنى العام. تذكرنا بقصائد الشعراء الغنائية، التي تعنى بترجيع أصوات ذات أجراس بعيدة لبرج كنيسة، أو تستعيد صورة لبيت قديم، أو قبة أثرية، تركت حكايات بين الناس وابتكروا عنه قصص 
الجن.
لكن الصبي وسمان، بدا شجاعا، وهو يقتحم البيت بخطى ثابتة، حذرة، كاشفا المكان، وتفاصيله، الحوش، وغرفه، والدرج، والسطح، ثم الصعود نحو البرج، والوقوف فوق العش.
ان مغامرته واكتشافه، تسجل له، في حين عجز الكبار عن الاكتشاف. وهذا يعني ان الصبي قد ساهم في اكتشاف المكان. والعالم السري وحوله الى عالم عادي، مؤنس.