وجدان عبدالعزيز
لا شك ان تجربة الكاتب ابراهيم سبتي في القصة والرواية ثرة، وتحمل الكثير من المراس والمران، حيث اجتمعت عنده التجربة العملية، كالحروب والمنافي والتشرد والأمراض، فتكشفت له شيئاً فشيئاً عن تجربة غنية، وغالباً ما تكون ثمة مسافة بين زمن التجربة وزمن تمثيلها السردي، بحيث يعيد الكاتب، ترتيب بعض أو معظم وقائع تجربته، فتكون أكثر تبصراً بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
وقد تكون تلك التجربة ساخنة يوصلها الكاتب، وهو يعيش حمى الإبداع، ثم تأتي التجربة الذهنية، فهي المتخيلة التي يستمدها المبدع من مصادر أخرى بوسائل مساعدة، ولم يتعرف إليها مباشرة، إلا من خلال مرافقته لها، وتفاعله معها، والإطلاع عليها ذهنياً بوسائل سمعية أو بصرية، كأحداث الماضي، وحقب التاريخ. غالباً ما تقع التجارب الذهنية قبل تعرف الكاتب إليها، لأنها نتاج زمن آخر، ولكن المبدع يجري عليها تغييراً، وقد يكون هذا التغيير كلياً أو جزئياً. بحيث لا يقف عند تخوم التجربة كمصدر معرفي، بل يتفاعل معها، بوعيه الخاص.
هذا الامر جعل الكاتب سبتي ان يتعامل في قصته (وصايا الحكمة) المنشورة في مجلة بين نهرين لشهر حزيران من هذا العام ، مع شخصيته (ليبولد بلوم) ، بقصدية خالقا من خلالها مقاربة بين الشخصية الواقعية في ذهنه، وبين بطل الرواية الخيالي التي كتبها جيمس جويس بعنوان عوليس، اي الكاتب تعالق نصيا مع جيمس جويس، والتعالق اوالتناص هو وجود تشابه بين نص وآخر، أو بين عدة نصوص، والحقيقة هذا مصطلح صاغته جوليا كريستيفا للإشارة إلى العلاقات المتبادلة بين نص معين ونصوص أخرى، وهي لا تعني تأثير نص في آخر أو تتبع المصادر التي استقى منها نص تضميناته من نصوص سابقة، بل تعني تفاعل أنظمة
أسلوبية.
وتشمل العلاقات التناصية إعادة الترتيب، والإيماء أو التلميح المتعلق بالموضوع أو البنية والتحويل والمحاكاة. فبلومي الذي حكى عنه الكاتب سبتي اخذ تجربته الحياتية من ذهن وصياغة الكاتب سبتي نفسه، حيث هضم من خلاله تجربة الحرب وويلاتها، فـ(أهل القرية يطلقون عليه بلّومي وهو الاسم الشائع له حتى في الجوار، عرف في القرى القريبة وكان لا يرد طلبا لحرث ارض او شق ساقية او صعود نخلة.. بلّومي رماه قدره في هذه البقعة ليموت بعيدا عن أهله بعد ان سجل مفقودا في دفاتر الجندية الانجليزية.. هكذا تحدث شيخ القرية، رجل طاعن يسند جسمه الهزيل على عصا
فاقعة).
هذه اشارة واضحة لويلات الحرب في ايماءة ذكية من الكاتب سبتي، من خلال متن القصة، ثم يتحول الكاتب الى اعطاء ايماءة اخرى، حاملة معها روحية التعالق النصي، التي اشرنا لها سلفاً من خلال ماحكاه في القصة: (كان صامتا لا يعرف كلامنا ، يتعامل بالإيماءات والرسم على الأرض ، بعد سنوات كان يحدثنا بلسان مضحك كأن جرذا اكل نصفه ، عن حياته ومدينة تدعى دبلن ظل يكررها حتى بتنا نعرف احوال اهلها من مشرق الشمس الى مغربها.
يقول انه يحبها كأم رؤوم ولولا الجندية لما تركتها)، ورغم قصر القصة المنشورة في مجلة بين نهرين وتزاحم الاحداث فيها، الا ان الكاتب استطاع ان يلم الموضوع ويبث رسالته كإيماءات لمّاحة، حيث عكس الحال، فبدلا من اخذ جندي هارب عراقي والتعامل معه، اخذ جنديا هاربا اجنبيا واسقط عليه الاحداث، فكان الهارب الاجنبي، قد تخفى بين صفوف اهل القرية، وعاش معهم وكان دمث الاخلاق انسانا
متعاونا.
وكانت وصيته: ( ان مت ادفنوني في مدينتي! واخبروا اللفتنانت كولونيل آرنو بخبر موتي، انفقوا ما جمعته في وليمة كبيرة لكل الناس الذين عشت معهم)، وحدث ما حدث حين اخبار الكولونيل آرنو قائد الجند واخباره بموت الجندي الهارب من كتيبة الخيالة حين اخترقوا القرية ذات عام من غزو، في حين اوقدوا شموعا ونثروا ماء الورد على سريره
وحجرته.
فالمهم في قصة الكاتب ابراهيم سبتي هو هذا التناغم الانساني بين البشر بغض النظر عن القومية والدين، وان التضامن الانساني فطرة انسانية بين جميع
الناس.
واضاف الكاتب في ايماءاته للكثير من القضايا الانسانية، وما يتحلى به الاستعمار وتعامله بالتعالي مع الشعوب.. وتبقى القصة تبث الكثير من معطيات المعاني والتأويلات المفتوحة على مصراعيها ، هي اذن قصة المعاني الانسانية المتجسدة في شخصية غريبة سرعان ما اندمجت وصارت جزءا مهما من تاريخ قرية سمح اهلها له بالعيش
معهم .