الصورة ألم الآخرين

ثقافة 2019/11/10
...

ناجح المعموري
 
 
ما زلت اعتقد كلما عاودت قراءة سوزان سونتاغ بانها ممتلئة ، بما هو جديد وغير معروف ، مع انني كتبت عنها ثلاث مرات من قبل ، واثارني كتابها الجديد “ التفت الى الم الاخرين “ كثيراً لان سونتاغ تحدثت بوصفها روائية وانهمكت بقوة بتفاصيل المشاهد ، التي رأتها في الحرب الفيتنامية واعلنت بانها الفوتوغرافيا حاملة العار كله لاميركا .
وقد اتسعت ثقافة الصورة كثيراً ، وكادت تشكل ثقافة شعبية ، ذات قاعدة واسعة جداً وعميقة ، والاهمية التي اتسمت بها سونتاغ ، كنت التقط مماثلات حول الصورة بينها وبين عدد من الشعراء او الكتاب ولا يشكل هذا عبئاً او نقصاً، لان الجميع يشتغل وسط فضاء الصورة وقد اعترف رولان بارت بوجود قراءات غير التي قدمها هو ، لان الصورة جاذبة مستدعية وقال : 
للصورة معنى غير الذي عرفه غيري . الصورة عين الماضي في الحاضر . تجعل الحاضر مختلفاً عن الماضي . دفاع عن الحياة . الحاضر غير قادر على تزييف الصورة وتحيينها .
لم استطع الفكاك بسهولة عن سوزان سونتاغ واتحرر من مذكراتها في مجلدها الثاني ، بعد الانتهاء من كتابها “ التفت الى الم الاخرين “ واكتشفت بأن الحرب الفيتنامية التي هيمن عليها الكتاب الاخير قد تمركزت في المقدمة المهمة التي كتبها “ ديفيد ريف “ ابن سونتاغ وقد استعان بمعارف ومعلومات عزل الكثير منها، ومع كل ما حصل من قبله ظلت مذكراتها مثيرة جداً للدهشة ، للصراحة الخاصة بعلاقاتها الجنسية والمثلية وحكايات العشق التي عاشتها مثل قصتها مع الشاعر الروسي برودسكي قالت “ حياتي هي رأسمالي ،رأسمال مخيلتي “ وعبرت صراحة عن ذلك في لقاء صحفي واشارت له الى انها تستعمر حياتها، بمعنى استثمارها كلياً، ولا تدع فرصة من اجل الاستمتاع بها وهذا القول اثار استغراب ديفيد / ابنها وقال تعبيرها شاذ، وملفت للنظر ولم تهتم بالمال من قبل واكد ابنها قائلاً : بانه لم يتذكر بانها استخدمت استعارة مالية في احاديثها الخاصة كما لم اتذكر بانها اشارت الى رغبتها لتكون كاتبة وكنت مستغرباً لانها فكرت بكتابة سيرتها . 
وتقود السيرة ــ حتماً ــ نحو الكشف والاعلان عن المستور ، والمتكتم عليه ، لكنها الفنان المصور غير القادر على كتمان السر ، لانه ينطوي على قبول بحضور السلطة وثقافتها وخطابها فيما اذا وظفته السلطة ، لان الصورة اداة القوة ووسيلة السلطة لانتاج خطاب قمعي وتسلطي . كما قالت سونتاغ في كتابها {حول الفوتوغراف} اشار ديفيد ريف الى ان ج2 من مذكرات سونتاغ يشبه محاولاً لتأكيد قوة الشخصية وامكاناتها الثقافية / الاجتماعية / السياسية ، وهذا ما عبرت عنه سونتاغ في بداية ج2 ، حيث تبدّت بوضوح تام غاصبة وحاقدة على الولايات المتحدة بسبب حماقات الحرب في فيتنام ، حيث تحولت سونتاغ بسببها الى ناشطة بارزة في اميركا والعالم وقال :( انا اعتقد انه حتى هي ، في استعادة الماضي  والتأمل فيه ، كانت ستتراجع عن بعض من الذي قالته اثناء زيارتها الى هانوي تحت قصف القنابل الاميركية ، مع هذا ضمنت هذه الافكار في الكتاب .... ان رعب الحرب الذي جعلها تسلك سبيلاً متطرفاً ، كان اي شيء عدا كونه تلفيقات مخيلتها ، ربما كانت حرباً طائشة ، لكنها لم تزل وحشية تجلّ عن الوصف ، كما كان هذا رأيها فيها في ذلك الوقت. اعتقد بأن ديفيد ريف اختصر الكثير عن والدته وقال ما بإمكانه رسم صورة لها ، بجانبها الانساني والثقافي ، عندما قال “ كانت تكتب يومياتها ، والاكثر عندما كانت تعيسة بمرارة وتكتب اقل حين كانت على ما يرام . ما قالته سوزان سونتاغ حصيلة لمعايشتها للحرب في فيتنام : ان الشيء يصبح حقيقة واقعة ــ بالنسبة لأولئك الذين يتابعونه من مكان اخر “ على هيئة اخبار “ عما يتم تصويره ولكن الكارثة لتجربة حية لا تشبه في الغالب صورتها / الالتفاف 
الى الم الاخرين / ص 29.
يحضر الينا الواقع الرهيب للحرب وجهامتها . رغم انه لم يحضر الينا الواقع الجثث ولم يمددها امام ابوابنا وعبر شوارعنا ، الا انه فعل شيئاً يشبه ذلك تماماً..... هذه الصور لها تميز رهيب... وبمساعدة عدسة التكبير ، يمكن تمييز ملامح القتلى . من الصعوبة بمكان ان تختار الذهاب الى المعرض ، حيث تنحني احدى النساء نحو تلك الجثث فتتعرف على زوج ، ابن ، واخ بين صفوف الاجساد الصامتة التي لا حياة فيها . التي ترقد جاهرة للخنادق المفتوحة / الالتفاف الى الم الاخرين / ص 62
المشهد السردي الموصوف بدقة وكأنه استجاب للحضور الشيئي ، ومثل هذا المشهد معروف في الحروب وسوزان سونتاغ شاهدت صورا كثيرة للحربين وحرب فيتنام التي ذهبت اليها وعرفت بموقفها عنها . ويتمظهر هذا الوصف عن عين سينمائية مراقبة بدقة مع حضور شعري لبعض الاوصاف . في هذا المشهد تعبير اكثر صراحة من يومياتها وولادة ثانية والتي تعاملت معها باعتبارها خلعاً جديداً وسنذهب لمقطع يساعدنا على ما كانت عليه سونتاغ من اندفاع نحو مزاولات الرغبة المتنوعة تطبيقاً لقناعات فلسفية ومغايرة دينية .
كانت سونتاغ مولعة بكل الاسماء البارزة في تاريخ الثقافة والمعرفة واكدت على ذلك من خلال مقتبسات في اليوميات ، وكان حضور غوته واضحاً عندما قال “إن المعرفة الناقصة هي القادرة على الابداع فقط“. تضيء هذه المقولة خزينا مهما ثقافيا وفكريا ، لكنه لم يصل لحد الاكتمال ومثل هذا الحد لا يتكون 
(لا شيء كان حقاً يهم كثيراً . كنت في تلك اللحظة، خائفة قليلاً من الموت .... قلنا ان على المرء ان يتوقع دائماً الاسوأ في الحياة بما ان الحياة هي حياة شحيحة ، ودون الوسط ــ على المرء الا يعترض عليها ، لكن وعلى الرغم من المسؤوليات الاجتماعية الضرورية ، عليه ان ينسحب ، الا يورط نفسه ، وربما من خلال المساهمة في الاسوأ ، سيمنح بضع لحظات من السعادة . لا تقبل حياة “ بتحفظ “ كان هذا ما قالته / ولادة ثانية / ص 34.
الحياة يجب ان تعاش ، كررت ذلك سونتاغ في يومياتها وعلى الانسان المدرك ان يعرف جيداً تسخير العقل وما ينتج عنه من وعي لخدمات الجسد ، ومعروفة هذه الاشارة التي وضعتها عنواناً لمجلد يومياتها الثاني ، فيها احالة ضمنية لنيتشه الذي كرس كثيراً من فلسفته عن الجسد الذي يتوجب عليه ان يكون ممتلئاً بوظائفه وليس وظيفته الاحادية ، واكثرها حضوراً وتكرساً مزاولة المتع والرغبات التي
لا تنفذ. وتعاملت سونتاغ مع الجسد / الجنس باعتباره احد القيم الوجودية التي تمنح الانسان حضوراً وتجعله موجوداً . واعطاه الفلاسفة ... زرادشت، شوبنهاور ،نيتشه ، فوكو طاقته التي تكون في لحظة الانغمار ببث الرسالة الكونية حتى لحظة الذوبان والوصول الى عتبة الموت ، موت الاثنين ، الرجل والمرأة . 
دونت رأياً جوهرياً للمفكر باتاي الصلة بين الجنس + الموت ، المتعة + الالم . المشكلة في رجل ثقة هي انه لم يخلع القناع ابداً . هو يبدو دائماً موثوقاً ، جذاباً ، ودوداً ، لا يمكنك ابداً ان تجعل تجربتك معه تتفق مع ما تعرفه عنه / سونتاغ / كما يسخر الوعي للجسد / ت “ عباس المفرجي / دار المدى / بيروت / 2016/ ص112.
تتحدث بطلاقة عن قناعاتها بالحياة ، الالم ، الموت ، الجنس ومرات وجدت بينها معاً ولا تحس بثقل احدها ، الا في اللحظة التي تندفع لممارسته ، فالحياة لن تكون حياة الا عبر تفاصيلها الاكثر اثارة لحماسة الكائن ، كي يزاولها ، هي مماثلة للموت ، لان الانسان يهفو له احيانا. وعودة الجزء الثاني من مذكراتها، سنلتقط يومية غير مؤرخة ، من عام 1975، اختارت لها اخر اليومية الطويلة انها رأي لكافكا. يصور المرء الاشياء فوتوغرافيا كي يطردها من ذهنه . تفضي هذه الملاحظة الخاصة بكافكا والمعتمدة عليها الى قراءة مهمة وحيوية ، تكشف لنا عن أن فترات انشغالها الواسع بالفوتوغراف والتقاط ما تراه ، تعني لديها نوعاً من العلاج ، لأنها تنظف ذاكراتها من تراكمها الضاغظ عليها. ولذلك علاقة بمرضها النفسي المعروف.