بائع العطور

ثقافة 2019/11/11
...

ياسين طه حافظ
كان هذا في الثمانينيات، وفي رحلة الى المغرب العربي وبعد ان غادرت المغرب الى تونس. كان المبتغى هم المترجمون لرفد مجلتنا الثقافة الاجنبية بما تحتاج له أعدادها. لكنني، رئيس تحريرها، استهوتني تونس أردت الارتواء من عذوبتها الليلية على البحر ومذاق المثقفين التونسيين ووضوح القرب من فرنسا والغرب في الثقافة واللياقات .
انتهت المهمة ومازالت لي أيام ابحث فيها عما يريحني في الحدائق وبين الناس، ناس الضواحي والحياة في القرى. فجأة حضرت فكرة : أن اتوجه الى "سوسة" ! تونسي شاب تعرفت عليه اقترح عليَّ ذلك أمس وقال هو أيضاً يريد الذهاب لزيارة أقاربه.
حسناً، كان صباحاً طرياً توجهنا فيه الى المحطة. مررنا بمشتل نبتاته الخضر طالعة بفرح وأرضه مسودة من غنى في السماد. هي العافية تتضح حين يكون الغذاء جيداً. بعد نصف ساعة من وصولنا المحطة كنا في القطار. 
كانت جلستنا في العربات العامة، أعني عربات الدرجة الثالثة وهي ما أفضله في سفرات النهار في القطارات لأرى الناس واسمعهم، افكاراً، عواطف، هموماً ومعرقلات عيش. وهي هذه وراء كتاباتي. ومن هذه شيء فيما اكتبه الآن.
قطار اليوم لا يختلف عن القطار المصري بشعبيته. لكني لم أشهد أقفاص دجاج وبط وخضار ومحاصيل فلاحين وهرج شعبي وكلام بأصوات عالية أو لعنات .
المهم هذه محطة سوسة. نزلت وصاحبي ومشينا الى حيث اقاربه فحدثهم عني، ولم يكن هناك الا امرأةٌ شبه قروية في بيتها المتواضع القريب من البحر والا فتى وقف متبسماً بترحاب وأبنةٌ انسلت لتختفي ..
وما ان جلسنا قليلاً يحدثني صاحبي عن تلك البيوت والصيد وبعض مكاسب وضحايا البحر، حتى جاءت تلك المرأة تحمل طبقاً بيديها متوجهةً إلينا. 
كانت بيضة مقلية من دجاجتها ورغيف خبز صنع يديها. ذلك كل ما تستطيع تقديمه، لكنها آلت على نفسها الا أن تكون مضيفة ولا يخرج الغريب من بيتها الا وقد أكل من زادهم. الطعام مثلما هو لطف وكرم، سيحول محبة وصلة قربى ويرتب على آكل الزاد حقوقاً .. هو العرف أعرفهُ وما نزال ، وأن ضعف، ندين به. 
فجأة، استأذنت المرأة وهرعت فزعة منحدرة على الرمل لتنجد رجل مسناً، انزلقت عربته بما تحمله من احتياجات، هي كل جهده. انقذته في اللحظة الحاسمة ..  قالت: لولا رحمة الله لقضوا الليلة بكاءً، لو تدحرجت وتلف ما فيها. واضحةً كانت سعادتها بما فعلت. قالت: هكذا نعيش هنا ليس سهلاً ان يعيش الانسان بلا عون من أحد. 
أثارني كلامها، أيقظني لأسأل نفسي : كم ستكون الحياة موحشة، فاجعة بقسوتها، إذا بقي الإنسان وحيداً في محنته بلا عون من أحد ؟ 
ودعناها شاكرين ونزلنا منحدرين على رمل الساحل، فالمتوسط أمامنا والأمواج الهادئة تمشي واحدةً بعد أُخرى كما بنظام. وساحل خال الا منا، لولا رجل يقترب لا ندري أين كان. التحق بنا، قال كمن يعتذر عن سوء حال: " قبل الظهر لا أحد، بعد الظهر يتحرك الناس الى البحر. في الليل الظلام وأصوات الموج. لكنني أؤكد لكم سوسة لن تبقى عارية وسواحلها خالية. سترونها يوماً أم السياحة وأم المخازن والناس تأتي لها من كل صوب.." .
تفاءلنا معه، وقلت له : لتبقَ الآمال ثروتنا التي لا تنفد والعالم لن يظل كما هو وسنرى بالتأكيد سوسة أخرى. اتمنى ان ازورها من بعد وأحييك وأحييها. المستقبل، كن مطمئناً، أفضل من الحاضر. بقيَّ ان تسلم مما لا تتوقعه أو لا تدري به. 
صعدنا الى القطار عائدين. العربات تبدو أقل زحاماً وأهدأ. وكانت فرصة طيبة مما تتيحه القطارات عادة، أن تعرفنا على رجل انضجته الحياة وعركته عركاً. هذا الرجل يتعاطى بيع عطور وأدوات زينة وقطع قماش حريرية. كل يوم يحمل بضاعته في كيس كبير على ظهره يبيعها على نسوة البيوت هناك ويعود. هو هذا عمله أو ديدنه منذ سنوات، وكما قال لي "نساء البيوت مزعجات أحياناً ولكن ذلك لا يهم إذا لم تصغِ لكل ما يقلنه. تظاهر بالصمم أحياناً لتستريح. أوضحَ أن للحياة في القطارات مذاقاً آخر لا نجده في الحياة
 المستقرة.
قال: "أنا اركب القطار ولي أمل أصل و أربح. وأعود في القطار ولي أمل أصل وأشتري المزيد. كل يوم ذهاب ووصول. أنا غير الذين لا يصلون .. لكن، لكن ماذا تسمي حياةً بين أذهب وأعود في طريق واحد ولعشر سنين؟ حياة موجزة واضحة، أليس كذلك؟ ولكنها حياة دودة أيضاً! على أية حال سيأتي يوم لا يركب في القطار بائع العطور".