الخوف من السكون

ثقافة 2019/11/12
...

ياسين النصير
 ما الذي يدفع الشباب إلى الحركة غير الخوف من السكون؟ هذا ما أفصحت عنه حركة الشباب التشرينيّة في العراق ولبنان والجزائر، مثلما دفعتهم قبل سنوات في دول عربيّة أخرى، ومثلما دفعت شباب أوروبا في ربيع باريس 1968، إلى التحرر من عقدة المؤسسة، لإتاحة الذات أن تشق طريقها في عالم معولم، اتاحت هذا الفترة القاسية للشباب العراقي ان يتمرّدوا على عقائدهم القديمة، ويتحرروا من إشكالية الإنسان التابع. الإنسان المجرّد من كيانه العلمي والمعرفي ليصبح إنسانًا مهمّشا تتلقفه المقاهي وحلقات التفرّد والعزلة، إذًا ما الذي يعنيه السكون؟ كي يصبح أداة للخوف؟. وما الذي تعنيه الحركة كي تصبح أداة لتعريف الذات والكشف عن القوى المعطلة لدى الشباب؟
 في الفلسفة يكون السكون مضادا للحركة، ومنذ نيوتن وحتى اليوم، تحولت الحركة من سقوط تفاحة إلى حركة للعجلات الكونية التي تدير شؤون الاقتصاد والفكر والعلم والتقنية كلها، واصبحنا نتحدث عن المجتمعات الديناميكية والمجتمعات السكونية، بحكم أن الحركة ثورة، بينما السكون اعادة انتاج معارف قديمة. ورددنا مع أنفسنا ومعتقداتنا أن الحركة بركة، وأن السكون مستنقع ماء لا يتجدد، حتى بتنا نتغنى شعرًا وغناء بحركة المد والجزر التي بنى عليها غوته في "فاوست" امكانية أن يمتد مدُّ البحر إلى النفوس ليطريها، وأن تصبح موجاته ايذانا ببدء صناعة الكهرباء، فكل شيء يتحرك، حتى اشد الكائنات سكونًا يمكننا ان نرصد حركتها وهي تبحث عن غذائها، او من يرافقها رحلة الجنس. 
لن أخوض كثيرا في فلسفة الطبيعة الديناميكية التي فرضت رؤيتها العيانية على غوته لتحديث ألمانيا، ولكني أشير أن للطبيعة ديناميكة هائلة عندما تجدد ذاتها عبر البراكين والزلازل والأمطار والرياح، أو في احسن صورها كما في صور فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر، أن تحتوي الدين الطبيعي الأبدي بما يجعلها قوة لبقية مصادر التفكير. 
عندما اعفى الله البشر من كلفة مغبة صياغة التعاليم، حتى بدأ الشر ينتشر بين البشر، باعتقادهم انهم قادرون على صناعة تعاليم جديدة تقوم على سُنّة هابيل وقابيل، وليس على سُنّة التعاليم الإلهيّة التي كانت تنزل وتصعد أسئلتها وتطبيقاتها ما بين السماء والأرض بفعل الرسول "هرمس" في المثيولوجيا اليونانية، او جبرائيل في الديانة الإسلامية، هذه الحركة الاستقطابيّة بين السماء والأرض ترفض أن يكون البشر ساكنًا غير فعّال، بل تربطه بحركة العمل والسؤال. وثمة من يسند ذلك بشعائر طقوسية ومثيولوجية من أن الحركة هي الشكل الدينامي للحلول والخلاص فوق هذه الأرض قبل أن تكون حلولًا آتية من السماء بما فيها من أفعال المجرات والكواكب والمجاهيل السوداء. فالعالم الدنيوي حسب روسو هو المعني بخيرات الحركة السماويّة، بينما عالم الأموات معني بخيرات ومنح الآلهة، مما يعني أن خلاص البشرية هو جزء من كينونة الحركة على الأرض، ولا نعدم تصورًا طالما شغل فلسفة القرن الثامن عشر، وعلى مختلف المستويات من أن مشكلة الإنسان هي في حركته بين المفاهيم كما لو كان يتحرك بين حقول زراعية متنوعة الأثمار، واعتبرت تلك الفلسفة أن الشر الجذري والفساد الإنساني كما شخّص روسو معوقات نمو القدرة العقلية على التجاوب مع حاجات المجتمع، تقع ضمن  التفريق بين إنسان الطبيعة وإنسان الثقافة، إنسان الطبيعة ساكن لا يتحرك ينتظر الخيرات من الطبيعة باعتبارها صاحبة الخير، وأنها تمتلك بعدا دينيا لا يمكن أن تنسى أولادها البشر، بينما يكون إنسان الثقافة، انسان الحركة والبحث والسؤال والشك، "اسع ياعبدي" كما يقول القرآن. وما بينهما في حضارة اليوم يظهر الإنسان الاصطناعي، الذي لايفكّر إلّا عبر الحركة. وشخّص روسو المشكلة كلها، بقوله: "كلّ شيء يمكن أن يكون على ما يرام عندما يغادر يد خالق الأشياء: كلّ شيء ينحط في يد الإنسان" هكذا أعفى روسو الله وحمل الإنسان وزر الشر كله". ولذلك لا يكون الحل لأية مشكلة الانتظار بنزول "إله الآلة" كما في المسرح اليوناني ليقدم لنا الحلول، الحل يكمن في الحركة على الأرض، وفي إنسان العمل، في الدنيا وليس في الآخرة، فيما نعمله نحن ونتأمّله ونفكر به، لا في ما يعمله غيرنا ويفكّر من هو بديلنا عنا، ويتأمل من هو قادر على صناعة حتى أحلامنا، الحلول تعني الحركة التي تفتت جزئيات السكون وتذيبها في عضلات الأرجل وهي تقطع المسافة بين البيت والحقل الذي نعمل فيه.
تعلّمنا حركيّة الشباب، المقترنة بالساحات مكانا وفضاء، أن البقاء في السكون يفجّر طاقات غير منضبطة، وعندما نفكّر مليًا نجد الأنظمة التوليتارية هي التي تصنع السكون كي تبقى مجتمعاتها عاطلة عن التفكير، أو أنّها تفكّر عوضا عن الآخرين. ومن ثم الدوران في حلقات الماضي، هذا ما جعل الشباب ينفجرون بالرغم من أنهم لم ينظموا إلى هوية غير هوية تحريك المجتمع، وجعله ديناميكيًا كي يستوعب ما يريدونه من طموحات وآمال. ومن يقف بوجه هذه الحركة سيجد نفسه عاطلًا عن ان يكون مجرد إنسان، بل هو أحد كائنات الطبيعة المعطلة عن التفكير.