سنحتاج هنا الى بعض المقولات المطلقة في محاولة لفهم أزمة الدولة في العراق، ومن هذه المقولات أنّ الدولة (أي دولة) لا يمكن أن تنجح إلّا اذا كانت منسجمة مع الزمن الحضاري العام، لأنّها لا تعيش في فراغ او انفصال، لا عن مجتمعها الذي يخضع لقوانين التطور الاجتماعي ولا عن المحيط الدولي، الدولة لا تسقط على المجتمع من فراغ وليست بناءً يخضع لمخيلة السلطة الحكومية بل هي نتاج ظروف تاريخية حضارية.
والأزمة العراقية الراهنة هي أزمة ظهور الدولة التي تتعالى على طموحات الأحزاب والجماعات المسلحة والعصابات، هي دولة تلبي طموحات المواطنين الذين تقدموا على القوى السياسية والمؤسسات الاجتماعية وصاروا أكثر معرفة بحاجتهم الفعلية عبر شعار (نريد وطن) وهو ما يعني أنّ العشيرة والطائفة والحزب والعصابة المسلحة كلها فشلت وتفشل في تدبير حياة المواطن لأنّ هذه الحياة الحديثة بحاجة الى دولة حديثة وليس أقل، والمواطن العراقي شاهد في فترة قصيرة معنى ونتائج الاصرار على ظهور ووجود دولة حديثة، دولة مواطنة، هذا المواطن يعرف أنّ مطلب الدولة الحديثة محاط بمخاطر الانحدار الى الفوضى او الذهاب الى الدكتاتورية كما في تجارب العراق نفسه وفي تجارب جيرانه، لكن الثقة بقوة تأثير أدوات وسياق المعاصرة أكبر من كل المخاطر، والقناعة بضرورة المخاطرة من أجل الدخول الى الزمن المعاصر فعلا، روحا وفكرا لا أدوات فقط هي ما يدفع المواطنين للمجازفة
بالركود الآمن.
16 عاما كافية لتؤكد ان مواد انشاء الدولة الجديدة غير صالحة ومن يتمسّك بمواد الانشاء الفاسدة عليه ان يتحمل نتائج انهيار السقوف الثقيلة فوق رأسه ولن تنفع تحذيراته للمواطنين وتخويفه من نتائج الانهيار، فقد أصرت شعوب كثيرة ليس فقط على هدم القصر وانما شمل الهدم المعبّد ايضا على ساكنيه والمتاجرين فيه وبه.
حاجات ورغبات المواطنين المعاصرين لا يمكن ان تحققها إلا دولة حديثة، تتجاوز سرديات التاريخ وترفض تعدد السلاح، دولة تتجاوز المعادلة الخلدونيّة للعصبيّة والتغلّب، دولة الكل فيها مواطنون، لاسادة فيها ولاعبيد، ليس فيها شخص او جماعة فوق القانون، ليس فيها جماعة مقدّسة تنافس المواطنين بأسلحتها المادية والمعنوية على أرصفتهم وبيوتهم العشوائيّة، هذه ليست شعارات بل ضرورات تعرفها قوى السلطة قبل المواطنين، ولذلك سارعت الى تسهيل الملاحقة القانونية لبعض من كانوا يحظون بالعناية الخاصة لكن المطالب الشعبيّة تريد اخضاع الجميع للقانون، لقد تعب المجتمع من كثرة وتكاثر المقدّسين سياسيا الذين يسخرون من القانون ويقدمون صغارهم وحواشيهم للمحاسبة
عندما تشتدُّ الأزمة.
كلما كان زمن إزالة القداسة أقصر كان الغضب أقل وأضرار الانهيار أخف ومستوى الانتقام أدنى.