حصاد {أقسى الشهور} لشاكر الأنباري

ثقافة 2019/11/17
...

 محمد علوان جبر

 

 
 
تحيلنا رواية «أقسى الشهور» للروائي شاكر الانباري الصادرة عن دار المتوسط عام 2019 بشكل مباشر ومنذ استهلالها الى سنوات الاقتتال الطائفي، سنوات الخوف والقتل ض لطائفي ،   سنوات الخوف والتي تطال الجميع،  قتل من أجل القتل.. وخوف يتساقط بمتواليات تحتويها الايام والشهور وهي توضع تحت مسمّى القسوة..  خوف يتصاعد من فصل الى فصل..  وكل فصل وضع تحت خانة الزمن، حيث  حزيران ـ 
تموز ـ  آب ـ  أيلول .. عبر هذه المتواليات  التي وضعت تحت مسمّى رئيس كبير حمل عنوان الرواية،  فهو رغم مباشرته لكنّه دالّ على المضمون، وربما يصادر مايمكن أن يتخيله القارئ،  فالذهن يذهب مباشرة الى القسوة .. قسوة الشهور التي يدخلنا منذ فصلها الاول في دوامات العنف الطائفي ..  إذ يكتشف ـ  جلال ملك ـ  الرصاصة ـ وهي موضوعة في ظرف قريبا من صندوق السيارة ..  من هنا نفهم المعنى الدال على القسوة التي تبدأ  فيها الرواية ـ  شهر حزيران ـ
الذي يشير اليه (حزيران لفظ سرياني، يعني الحنطة، أي القمح، لوقوع موسم حصاده فيه)، من هذه الدلالة نفهم هل كان يعني بالحصاد في حزيران، حصاد الموت الذي شاع في البلاد الذي يشكّل نقيضا كبيرا مع المسمّى المقدّس للشهر، والذي يقف فيه أبطال الرواية ازاءه وهم يعيشون الخوف والرعب القائم على حقيقة الخراب وهو يهيمن على الوطن ولايكتفي بذلك بل يقوده نحو الهاوية عبر الطائفية والتكفير واشاعة الشر
 والخوف والهلع.
    يكتب لنا شاكر الانباري عبر سيناريوهات القسوة ليقول لنا بما يجري في بغداد وحاراتها ملتقطاً أدق التفاصيل بحرفية عالية، متخذا من منطقة «الدورة» واحيائها منصات للحديث عن شهور القسوة التي يختلط فيها دم الضحايا من مختلف الطوائف والاديان،  يقتل الجميع بدم بارد من قتلة لايعرفون الرحمة،  قتلة هيمنت اشباحهم على المشهد في بغداد وباقي المحافظات طوال سنوات الاقتتال الطائفي الذي اعقب دخول الدبابات الاميركية وبدء المحنة العراقية، قتل لم توقفه روادع الانسانية والدين،  قتل من أجل القتل، بعد أن يعثر ـ جلال ملك ـ على الرصاصة في سيارته ـ  وكانت هي وسيلة سادت ومازالت لايصال رسالة التهديد التي لاتقبل القسمة على اثنين،  فالرسالة التي تصل تعني ان من تصله سيكون هدفا وعرضة للقتل في أي وقت وفي أي مكان، ومن خلال هذا الخوف نقترب قليلا من سكان الحي الذي تدور فيه احداث الرواية ...
ـ   جواد الحمّال ـ  سائق العربة الذي يلبي طلبات الجميع مقابل بضعة دنانير تكفيه لاطعام أمه واخوته، والذي يخطف بلا سبب ودون أن يعرف أحد مصيره... 
ـ   عادل العائد من الأسر المدمن على الخمرة التي يجد فيها ملاذه 
ـ  جميلة ـ  صاحبة البيت الذي يسكنه «جلال ملك» هو وزوجته نور وولداه سامي ورامي ..  
ـ   سعد الحلّاق .. الذي يقتل بطريقة شنيعة كما كان يقتل بها من كان يتهم بما يسمّى «الايمو» وشخصيات أخرى،  الجار الغامض،  سائق السيارة،  شخصية من الشخصيات التي نعلم أنّها في السجن وتبقى
 في السجن.. 
ربما تشبه الرواية السيرة الذاتية، لأنّها تسرد بعمق قلق الذات وعدمية الوجود بفعل مايجري من خراب يصل الى ارادة مازوشية، لا لغرض تدمير الذات، ولكن لعدم وجود بديل، فهي تدمير «جلال» لذاته بسبب عقدة الخوف «الرصاصة» والهلع المهيمن بسبب «القتل العلني الذي تمارسه المجاميع المتطرفة لسعد الحلاق» بطريقة بشعة وكذلك حادثة تفجير الجامع الذي يعني ضمن مايعنيه الشك المسيطر والتهديد بالموت اليومي،  ولهذا يركن التاريخ جانبا على رفوف القلق اليومي للحاضر المأزوم، ونجد هيمنة الصور المتداعية على هيئة ريبورتاجات مكتوبة بلغة صحفية عالية، ربما وهذا ما أراه ـ كان بالامكان اختصار الكثير منها حتى لاتكسر جماليات السرد
 في الرواية ـ 
ولكن الروائي استطاع أن يوازن بين مباشرة الريبورتاجات الصحفية وبين المنولوجات الداخلية التي اضفت الكثير من الجماليات السردية، عبر الوصول الى غاية ما أراد أن يوصله وهو أن الايغال في القسوة يؤدي دائما الى الضياع والموت وهمينة  المجهول المتمثل بالملثمين أو القدر الغامض الداعي الى الهروب والانفلات من هذه الدوامة نحو دوامات الضياع،  فيشعر السارد والحديث موجه للبطل من عمر الاسير العائد والمدمن (أفضل ما تقوم به هو مغادرة هذا البلد، طِرْ أخويه جلال طِرْ ، حلق في الفضاء مثل العصافير، أنقذ أولادك وزوجتك، هل تدري كم عائلة نكبت في تفجير جامع النور؟ عشرات، وهذا تفجير صغير، كيف بالتفجيرات الضخمة التي تنكب مئات العوائل ص 257 الرواية)، وتتواصل دوامات الضياع، إذ نجد انفسنا امام نهاية مأساوية، ربما تكون حقيقية او مختلقة او هي تمثيل سيناريو للمصير الذي يواجهه السارد كرمز لهيمنة عجلة الموت التي تستمر في البلد حتى اذا هاجر،  فسيبقى الرعب ملازما له وعلامة دالة ومسيطرة
 على المشهد ...