التنوّع الثقافي وروح النصّ

ثقافة 2019/11/18
...

ياسين طه حافظ
 
عالم الكتابة يمتدّ الى عوالم، منها معرفي أو ميتافيزيقي الموروث أو المكتسب الجديد، أو العلمي أو ذلك العالم الذي يَصَنعه الظرف – البيئة: وما يفرضه التاريخ. استيعاب مؤثرات «هذه» كلها، وتتبع آثارها، أمر مستحيل. الاستحالة بسبب التنوع والحقول او المصادر. والاستحالة لانّها قد تكون متماهية مع بعضها وليس سهلاً التعيين. لكن هذه مجتمعة تشكل «عجينة ابستمولوجية» هي وراء تغذيتنا الأخيرة بأشكالها الملموسة. 
هنا تبدأ صعوبة التخصص، وهنا الحاجة الى ناقد ابستمولوجي «معرفي» في جانب منه. نحن دائماً بحاجة الى توقف من إشكال، واستراحة نقدية قبل الحكم. تبدو المهمّة ليست هينة أبداً وهي تزداد صعوبة بازدياد عمق وسعة مدى القراءة وفي هذه الاحوال، النص ينتظر! يتساءل أدوارد سعيد عمّا كتبه فوكو عن روسو ان كان لتلك الكتابة أية علاقة بـ روسو؟ هي، في رأيي، لها علاقة بثقافة فوكو وإرادة فوكو – ربما لامس ثقافة روسو وهو يواصل التقدم. لكنّها عموما عمّا يريد الوصول اليه فوكو او ما يريد تأكيده! هو دخل مدخلاً معرفياً، فالقرن الثامن عشر وعموم الفكر الغربي لهما تأثيرهما في روسو. وحديث فوكو عنهما اصلاً أكثر مما عن روسو. روسو هنا، وأي كاتب او شاعر سواه، صار ظاهرة عارضة او افرازاً ثانويا من حيوية ثقافية واسعة. هو نوع مما يسميه الطب أعراضا جانبيّة أو side effects .
يوما تحدثتُ مع أستاذ نقد حديث كتبَ عنّي سألته: لِمَ اخترت هذا الشاهد وليس غيره، منّي أو من غيري من الشعراء؟ خلاصة الاجوبة كانت: لأنّ ذلك اختياره! اختياره تعني: لما في النص من عائدية له! له، ليس للشاعر ولا للقصيدة..
هنا نحن أمام حالين: إكبار النقد، والحال الثانية عدم الوثوق به. وفي هذا تسليم بأنّه لا يكتب عن النصّ لكن الكتابة اكثر ما تكون، عمّا في داخله المعرفي والنفسي وربما الغائي، سراً وعلناً ونحن نلتقف ما يبزغ او يفلت من السياقات المكونة للنصّ ومن السياق العام الذي كوّنته. واذا كان لنا ما نهتمّ به بمحبة، بتشوّق، بمحاولة اقتناع او رضا، فهو روح النصّ
 وتمظهراتها.
فعلينا اذا، والحال هذه أن ننتبه دائما ونحن نقرأ نقدا بأنّ النقد قد يعيد “حال” النصّ الى وضوح معين أو يوجهه الى منطقة ضوء أخرى، خلفياتها المعرفية غير التي كانت. وان النص ضمن الحراك الاجتماعي وحراك المنظومة الثقافية معرض “للاغتصاب”، معرض للتجميل او التحوير ومعرض للتزييف او لاكتساب فضائل مزايا لم تكن في الحسبان. النقد في حال التنقيب عن المدخرات يكتسب حيوية حالة ويكتسب النصّ بفضله مجدا وتحولات غير متوقعة في المستوى. هو مجد النقد. أعني العمل المجيد للنقد كما هي أحياناً حال يتعرّض فيها نصّ للخطر. يقابل هذا كثيراً ما يُحْرَف النصّ عن وجهته حين تحظر الايديولوجية بقوة او السياسة او الاقتصاد “كمفردة يوميّة فاعلة”، وفي زماننا الميديا أو الشاشة أيضاً. مما سبق يمكننا القول: إنّ العمل خلف النصّ عمل مجيد لكنّه يبقى عملا خارج النصّ. ومسافة البعد تتوقف على البعد والسعة المعرفيين للناقد. وهكذا نحن أمام تحولات في مفهوم الشعر ومفهوم النقد وعدم استقرار هذين المفهومين. والشاعر هنا يبدو أكثر محدوديّة لأنّه ضمن ممارسة جانب كبير منها تقليدي. ومدى ابتداع انساق جديدة او تقنيات تعبير للموضوع، او في حال اكثر تقدما صناعة تقليد جديد ...، صناعة هذا هو إبداع ان كان كاشفا وهو سقوط ان كان تعثرا وتخبطا في الظلام.
 
ولكن، ما هو النصّ؟ 
هذا سؤال يمكن الاجابة عنه لغويّاً، ثم يمكن الاجتهاد في الكلام عنه. لكننا بعد الاثنين، ومن تأمّل محتوياته التركيبية وما تخفي، نجد : ارشيف مقولات، ذكريات، اخبارا وخطابات عاطفية وتحريضية وكشوفا عن رغبات.. ونجد مع هذه صنعة لغوية، صياغات ولعبا فنيا ومناورات في الكشف عمّا أسلفنا. ونجد النصّ يفصح مرات كل مرة عن شيء، من اشياء تتواصل نتيجة لذلك، صارت لنا فلسفات للعمل، محصلتها اثنتان: الفردية أو الحرة والتي تجعل النصّ ملك الفردانيّة وخاصّها مضمونا وفعلا والثانية تلك التي تجعل النصّ بعضا من البناء الاجتماعي. حجة اصحاب الفلسفة الاولى أنّهم يخضعون النصّ الى سلطة أسمى، ويكون بهذا بعيدا عن المفردات العابرة او يوميات الكائن الحي – الطعام واللباس والقوت وخدمات السلطة او الظرف. أي أن أصحاب الفلسفة الثانية أولاء يخضعون النصّ الى السلطة الارضيّة. أولئك يقولون بتحرّر الفرد والكشف عن عظمة الذات وخفاياها وأولاء يقولون بحرية المجتمع – مجموع الذوات البشرية – وأمن المجتمع ورفاهه الاقتصادي، وان كل القوى الإنسانية وضمنها النصّ تعمل لتحقيق حياة فضلى للإنسان. إذا، هناك تحرر وخلاص من النظام الاجتماعي وظروفه وهنا احترام وتطوير للنظام الاجتماعي وشروطه. وان الحرية شأن أرضي وليس سماويا ولا تتأتى من “سلطة أسمى” مدعاة.
سؤالنا الآن: هل نعتمد على إرادة المعرفة أم على إرادة المجتمع؟ مشكلة محيّرة، نتمنّى أن نقدر على جمع الإرادتين ونجعل من فعليهما قوة فعل مرضية، مقنعة وجمالية أيضا. لنحترم المسألتين قصد احترام النصّ. فما نقوله عنه، دراسة وتحليلاً، يمثل ثقافتنا واهتماماتنا نحن. وقد تغلغلنا في النصّ لنراها. أو أنا اتخذنا من النصّ وسيطا للحديث عنها. من تطبيقات ذلك، وضرورة احترام كلا النصّ ونقده، هذا المثال التطبيقي الملموس.. ان هاملت في عصرنا، وفي ثقافتنا، ليس أبدا هاملت شكسبير. هذا هاملت صنعه النقد وصنعته الدراسات. أي ان هاملت اليوم من صناعتنا نحن، أو من الدراسات التي نحن اجتهدنا وعملنا على انتاجها.
يعيدنا هذا الى ما سبق، أي الى العوالم داخل المتلقي او الدارس والعوالم داخل الكلمة وانجازاتها ثم سياقات النصّ وما تفرضه هذه السياقات من دلالات أخرى صنعتها من وجودها معا في فضاء الكتابة.
وبهذا تحصل عملية استملاك، تجعل النصّ ملكَ ناقده او قارئه، وقد يصبح من ملكيات مدى جديد آخر كأن يكون دار النشر- أعني يكون بعضاً من المضمرات المضافة لسياستها..
يبدو أنّ عظمة النصّ، قوة حيويته، هي في مدى قدرته على الإرضاء، على التوافق ومختلفاتنا، ثقافاتٍ وأزمنة...