الرؤية الذهنيَّة

ثقافة 2019/11/18
...

ياسين النصير
ثمّة رؤيتان للشيء، الرؤية البصريّة، وهي التي نباشر بها معاينة الأشياء حينما تكون أمام أعيننا، فلا نبصر منها إلّا سطحها وألوانه وربما كتلتها وحجمها وشكلها العام، وهي أمور تتعلق بإمكانية الرؤية البصرية التجسيدية المباشرة للواقع، إذ تنعكس هذه الأشياء على شبكة العين ومن ثمّ ترسلها إلى الدماغ لخزنها. أما الصورة الذهنية، فهي صورة الأشياء بعد خزنها في الدماغ، عندئذ تتحول هذه الصورة إلى علامة ورموز متخلية عن ماديتها، بحيث عندما نرى الشيء نفسه الذي رأيناه سابقا واختزن الدماغ صورته كعلامة أو إشارة، تجرد ذلك الشيء من كيانه المادي ليصبح صورة تقترن باللون أو بعلامة ما على سطحه، كأن يكون الشيء مكتملًا او ناقصًا او مصبوغًا بلون معين أو أن يكون حجمه صغيرًا أو كبيرًا، كل هذه المعلومات المركزة في الذهن لا تتغلغل إلى بنية وتكوين ومحتوى الشيء، بل تبقى محصورة في سطحه، لأنّ الذهن لا يختزن إلّا ما يبعث ثانية على الحضور بفعل حافز معين.
خطرت لي هذه العملية المعقدة وأنا أبحث عن كتاب في مكتبتي استدعته فكرة ما  في مقال أكتبه، لاجلب منه مقتبسا لتأكيد هذه الفكرة، الكتاب موضوع في المكتبة وسبق لي قبل ان استعملته، ثمّ تركته بين أقرانه في مكان ما، وأنا بصدد البحث عنه، كي استعين به، ضاع  تمامًا من نظري، وانا الذي استدل عليه بأن لون غلافه أزرق، وحجمه اعتيادي، ليس كبيرًا ولا صغيرًا بحيث استدل عليه بوقت قصير. ومع ذلك بحثت عنه ولم أجده، بالرغم من ان مكتبتي في هولندا لا يتجاوز عدد الكتب فيها الألفين. 
بعد يومين، وبدون حاجة للكتاب عثرت عليه بسهولة، وأنا الذي مررت يدي وعيني على مكانه مرات عديدة دون جدوى، فجأة ينبثق سؤال الشك في قدراتي العقلية، قلت مع نفسي: هل من المعقول أن أعثر على الكتاب بهذه السهولة وأنا الذي بحثت عنه بجدية طوال ساعات؟ لم أجد تفسيرًا مقنعًا لحالتي الخاصة، وبعيدًا عن نظرية الجشتالت، وعن نظريات اللون، وعن أية مقولة من مقولات فن الرسم، عدت إلى وضعي الخاص، لأجد نفسي وأنا أبحث عن الكتاب في زمن اشتغالي بالمقال الذي احتجت الاقتباس منه، فكنت معنيًا بالكتاب من خلال الفكرة التي أريد اقتباسها، وبما أن الفكرة موجودة في محتوى الكتاب، وفي صفحة ما من صفحاته، فهي وحدها التي تظهر أمام عيني، لأنها ليست صورة مختزنة في الذهن، الكتاب هو المختزن، فأنا كنت ابحث عن الفكرة من خلال الكتاب، ولم ابحث عن الكتاب من خلال الفكرة، في هذه الحال يبرز أمامي لون غلافه، حجمه، ربما عدد صفحاته، كل هذا اراه من خلال الفكرة، وليس من خلال الكتاب، لأنّ الرؤية المحايثة، أي رؤية العين، لا تظهر للمباشرة إلّا إذا كانت معنية بالبحث، ولان العين لا ترى الفكرة، ولكنّها ترى الغلاف واللون، بينما الرؤية الذهنية لا تستعير ألوان الشيء ولا حجمه، بل تهتم بالأفكار، لذلك لن تجد العين الكتاب لأن الكتاب تحول إلى فكرة.
"إذا أراد شخص ما أن يقدم لنا انطباعًا عن منظر طبيعي عبر تحليل عناصره والبحث عن مفهوم واضح لكل عنصر من هذه العناصر يصف فيه المنظر الطبيعي مثلًا بلغة الجيولوجيا وأدواتها المعرفية، فسوف يصل إلى نظرة جديدة في العلم الطبيعي، لكن بسبب هذه النظرة بالذات لم يبق حتى النزر اليسير من "جمال" المنظر الطبيعي".