الذوبان في بوتقة الوطن

ثقافة 2019/11/19
...

حسين الصدر 

 
 
- 1 -
لعلّ أعظم ما أفرزته المظاهرات (التشرينيّة) العارمة هو الذوبان في بوتقة الوطن .. فقد تجمّع العراقيون على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم واختلطّ المحرومون بالمتخمين، والمترفون بالبائسين وشكلوا أمواجاً بشريّة متلاطمة تتغنّى بحب الوطن وتهتف باسمه وترفع مراتبه وتدعو لانقاذه من يد الذين نهبوا ثرواتهِ واحتكروا خيراتهِ وعاثوا فساداً في البلاد والعباد .
- 2 -
إنّها إذن ليستْ ثورة جياعٍ كما قد صوّرها البعض،
وليست ثورةَ عاطِلين عن العمل يطالبون بتوفير العمل لهم كما يظن الآخرون .
إنّها ثورة على الفساد والمفسدين، وعلى اختراق السلطويين للدستور والقوانين والمعايير الموضوعية، والمطالبة بوطن يُسعدُ ابناءه بالعدل والمحبة دون تمييز ودون محاصصات فئوية او طائفية او قومية او عشائرية .
لقد اسقطت الاحتجاجات الشعبية الضاربة كلّ الحواجز المصطنعة التي مزّقت النسيج الاجتماعي في العراق، ولم يعد ثمّة إلّا الحسّ الوطني الصادق المنطلق من ضرورة جعل (المواطنة) هي الاساس الذي تقوم عليه العلاقة بينهم وبين كلّ من يتسنم المسؤولية في (الوطن).
- 3 -
إنّ حبَّ الوطن من الايمان، 
وإنّ حضن الوطن هو كحضن الأم الذي يجد فيه (المواطن) الدفء والحب والحنان، وانّ كلّ ذرةٍ من تراب الوطن هي بمثابة قطرة الدم الجاري في الشرايين .
- 4 -
كنا نقول لمن يتهم بعض العراقيين بضعف حبهم للوطن :
إنّكم مخطئون 
انظروا ماذا يجري حين يخوض الفريق الرياضي العراقي غمار السباق مع فريق رياضي أجنبي وارصدوا ردود الفعل عند العراقيين حين يفوز الفريق العراقي على منافسه ...!!
إنّ لعلعة الرصاص تملأ الأسماع... وهي تعبّر عن فرحهم بانتصار الفريق العراقي ولا تحتاج القضية الى كبير فطنة او ذكاء لمعرفة السبب الكامن وراء كلّ ذلك الابتهاج .
إنّه حبُّ الوطن 
وإنّه الاعتزاز بالعراق الحبيب، البلد العريق بحضارته، والغني برموزه وانجازاته العلمية والفكرية والثقافية والأدبية ...
وكونه بؤرة الاشعاع الروحي والمعرفي ومنجم الابداع والابتكار، وموطن الحرائر والأحرار على مدار التاريخ. 
- 5 -
لقد كتب بعض المواطنين العراقيين – تندّراً – لافتة تقول :
انتقلت (الطائفية) الى رحمة الله تعالى. 
وموت (الطائفية) يعني انتصار (الوطنية) على كل العناوين الفرعية التي تنهش الجسد العراقي ...
إنّ التلاحم الوطني هو أساس النهوض والتقدم لكل الأمم والشعوب ولن تستطيع أية جهة ما عظمت قوتها – سواء كانت داخلية أو خارجية- 
أنْ تقهر إدارة الشعب المتلاحم لكُلّ قواه الوطنية،
وانّ إرادة الشعب العراقي لن يستطيع أحد أن يصادرها .
وقد طالبت المرجعية الدينية العليا وانطلاقا من حكمتها وأبوّتها باحترام ارادة الشعب والاصغاء الى مطالبه المشروعة في منحى بالغ الدلالة على عمق حبّها للعراق وللشعب بكلّ فئاته ومكوناته .
- 6 -
إنّ النظام الدكتاتوري المباد هجّر بالقوة الآلاف المؤلفة من العراقيين وفرض على الكثير من الأحرار والحرائر ان يهاجروا من الوطن مكرهين فراراً من ان يكونوا وقوداً لحروبه الطائشة أو مورداً لتنفيذ أوامره وتوجهاته المحمومة وكما قال الشاعر :
ثلاثٌ يعز الصبر عند وقوعها 
ويذهل منها عقلُ كلِّ لبيبِ
خروجُ اضطرارٍ من بلاد يُحبُّها 
وفرقةُ اخوانٍ وفقدُ حبيبِ
وحين خرجنا مضطرين لم نركن الى الدعة بل مارسنا عملية التصدي للنظام الغادر وفق الفرص المتاحة، متطلعين الى بزوغ فجر الخلاص وعنده سارعنا الى العودة الى رحاب الوطن بعد ذلك المخاض العسير ...
- 7 -
لقد عانينا من غربة الدار، ومن غربة الروح، وهي غربة قاسية، ومما قلت فيها :
أيّها المسكون بالأوجاعِ
في دنيا النزوحِ
إنْ تكن مُضنىً بِوجْدٍ
والتياعٍ وجروحِ
  
وبآهاتِكَ شوقا 
للروابي والسفوحِ
هان عندي كلُّ جرح
ما خلا غربةِ روحي 
 (المنبر / العدد /58 / ص7 ت2 1999 )