لم يسجل التاريخ الحديث أيّة تظاهرات شعبيّة تصاعد مستوى الزخم فيها الى الاعتصامات والعصيان المدني من دون الاعلان عن الجهات التنسيقيّة، الا في اطار التجارب التي وظفت فيها مطالب الشعوب في سياق صراع الارادات الخارجية داخل حدود الدولة، فتحولت تلك التظاهرات الى أشكال أخرى من الاحتجاجات التي نجم عنها تغيير في شكل النظام السياسي ورموزه بحسب توجهات
الجهات الداعمة.
وفي تجارب أخرى الى مواجهات دموية أفضت الى حروب أهلية، ومن هنا فإنّ الإصرار على عفوية التظاهرات التي تشهدها بلادنا دون الاعلان عن جهاتها التنسيقية، بالتزامن مع تصاعد زخم التظاهر وادامته بشكل علني، يبدو أمرا مثيرا للريبة، ليس لأن هذا الأمر يمهد لاختطاف المطالب وركوب الموجة على حساب وجع الناس وحسب، بل لأن التظاهرات ستكون عرضة للانحراف عن مسارها السلمي لصالح من يتحكّم بأدوات التحشيد عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام وسواها، حينها سيكون الناس أداة ليس أكثر في اطار صراع الارادات الدولية والاقليمية وهي تطالب
بحقوقها.
ومن هنا جاءت أهمية الاعلان عن التنسيقيات التي تدير هذا الحراك والاعلان عن أهدافها مسبقا والسعي لتحقيقها سلميا من أجل ضمان الدعم الجماهيري لها وعدم تحويل البلاد الى ساحة لتصفية الحسابات بين الارادات الدولية والاقليمية، اذ ليس من العدل والمنطق أن تختطف المطالبات بوضع حد للفساد المستشري وايجاد فرص للعمل وتحقيق العدالة الاجتماعية، لصالح الارادات الدولية والاقليمية التي اتخذت من الارباك السياسي والأمني وسيلة لصناعة صدمة التحول بهدف الوصول بالبلاد والعباد الى حالة القبول بالحلول الجاهزة التي ستصنعها رساميل العولمة على حساب خصخصة الوطن وضياع منطق العدالة الاجتماعية، ومن ثمّ صعود سلطة رأس المال وبرجوازية الكوارث تحت مظلة ما سمّي بالاصلاحات التي فرضتها الجهات الدولية على البلاد خلال سنوات الصدمة وما تمخّض عنها
من معطيات.
وبناءً عليه فإنّ السيناريوهات المتوقعة خلال الأيام المقبلة، ربما تكون عديدة ما لم يتصدَ لها الوعي الجماهيري، الا ان الأرجح فيها ان يكون السعي باتجاه انتخابات مبكرة، تفرز وجود قوى سياسية جديدة تختطف مسميات التظاهرات من قبيل «حركة تشرين- انتفاضة التحرير- جماعة المطعم التركي- انتفاضة تشرين» وسرعان ما ستجد هذه المسميات قبولا لدى الشارع من خلال الدعم الذي ستوفره لها أدوات العولمة الثقافية، فتحصد نتائج الانتخابات، التي لا علم ولا سيطرة للعراقيين بآليتها الألكترونية المعتمدة في العد والفرز، وحينها سيكون الرد جاهزا على كلّ من يعترض على نتائج الانتخابات، اعتمادا على تحشيد الرأي العام اعلاميا لصالح من سيركب تضحيات المتظاهرين، آنذاك ستفرز الانتخابات أغلبية برلمانية تتماهى مع الارادة الدولية الداعمة لها، ليكون صراعها بالوكالة مع الارادات الاقليمية على حساب مستقبل البلاد ووجع العباد.