على الرغم من قصر المسرحيّة وشدّة التركيز فهي مكتنزة بالرؤى والتباينات مع قلة شخوصها. واستطاع القاص حنون مجيد الامساك بعمله منذ اللحظة الاولى. وحقق نجاحاً واضحاً من خلال سينوغرافيا العمل، والضبط الدقيق بالوصف، ورسم الصورة بشكل جيد، ومعاودة القراءة للسنبوغرافيا المفترضة للعرض سنجد. الرسم ودقة اختيار الالفاظ واخضاعها للنسج المضبوط.
وتحقق مثل هذا في نص عزلة الملك، ينفتح امام المتلقي ويمنحه العديد من الفرص لكشط سطح النص واستمرار على ذلك والنجاح في التقاط المعنى والدنو اكثر لدلالات. ومثل هذا له تأثير على النتائج الاخيرة للعرض، لان النص انعكس واضحاً على سطح المرآة، ولان النص /او العرض محكوم بالتنامي السببي التقليدي الذي يحتاجه النص /او العرض. والرأي الاخير الذي سيختصر نوايا المبدع حنون مجيد التي نجح في تجديد الاطار الذي سيكون ظاهراً على خشبة المسرح ان الخبرة واتقان الحرفة البنائيّة بالمسرح، تختزل الكثير من العناصر الفنية، مثل الشخوص والزمان المستعاض عنه بالإشارات والعلامات، وكذلك الانارة.
الشخوص التي تهيكلت عليها المسرحية القصيرة ثلاثة فقط الملك، كبير الخدم، طرّاق مجهولون.
ولانّ الحضور الاكبر والاوفر في المسرحية للملك، وهو الدال على السلطة الكبرى، لا بدّ أن يكون هو المتحدث الاول مثلما تعارفت عليه السياقات المسرحية. وكان مثول الملك يضفي قداسة على العرض، فماذا لو كان كبير الخدم هو الاكثر حضوراً، ووضع الملك يساعد على ذلك.
ذكرنا ما تنطوي عليه شخصية الملك من تمركز، لكنّه ظهر على الرغم من قداسة شخصية، تمظهر وحيداً، معزولاً، ومثل حالته مثيرة للدهشة والاستغراب.
" الوقت ضحى: الملك وحيداً .... مستلقياً على سريره الملكي الضخم في غرفته الملكية .... الغرفة فخمة جداً، لكنها باردة دكناء ورائحتها عفنة بعض الشيء، ويسودها اهمال طفيف.... نوافذها مغلقة... ينتصب كرسي ملكي... والى جانبه كرسي اخر... ولكنه غير ملكي، يختلف عنه في الحجم، تساقطت عليهما أوراق توت صفر ذاوية، وتربض قبالتهما وليس قريباً منهما، ثلاثة اسود ضامرة ص 6//.
قوة السلطة وحضور الدال عليها، ولا تعرف السلطة الغياب والتعطل، والآليات الدالة عليها كثيرة، تنمو كالكائن الحي ويزاولها من اعتاد عليها، وكلما ما تنوعت اليات القوة، ازادت السلطة حضوراً، للسلطة قوة اخرى، غير المادية المباشرة، الثقافة، ابتداء بالوسائل الداعمة آليات خارقة الابنية، الحدائق، الازياء، الطعام، للسلطة، ويوازيها حضوراً الملك، بهيبته وجبروته.
عدد الشخوص المحدود، تأثيره واضح، لأن البناء الفني اختار الحوار وليس الميلودراما. والكشوف التي قدمها النص للمتلقي تشير ضمناً لوجود عديد من الشخوص داخل القصر، على الرغم من ما أراده القاص حنون مجيد مفهوم منذ توصيفات السينوغرافيا لان شيخوخة السلطة تقود الى حالة الخراب والوحدة والوحشة.. لكن هذا لا يصح دائماً. وهذا يتمظهر عن كلية النص /او العرض بوجود عديد من الشخوص. الفجوة واحدة في النص بل اكثر، طفت فوق النص وهو تومئ لنفسها وتؤشر على الفراغ الذي لم يستطع الملك او كبير الخدم الذي ظل وحيداً، وغاب الخدم الذين كان هو مسؤولهم. اتضح لي بأنّ الملك ازاح احد الدكتاتوريات التي حكمت الشرق انه بديل رمزي لوقائع موضوعية معايشة ومعروفة للجميع المكان ورثاثة الموجودات وحالة الخوف والاحساس بالوحدة جعلت الملك وحيداً، راضياً بصداقة كبير الخدم، واختاره محاوراً له، مستمعاً لمقترحاته، وتنامي لحظات الخوف والقلق بعدما اختار الملك مكاناً له خارج القصر متجاوراً مع الغابة وربضت قريباً من الاسود التي لم تجد ما يقدمه الملك من جنده وخدمه ليقدمه طعاماً للأسود، التي هرمت الاخرى بسبب الجوع، ومثل هذه الواقعة لها حضور في الذاكرة الوطنية التي تنفتح امام لحظات اتت بكل قسوتها ومخاوفها من الاتي لقد تغيرت حياة الملك، الفراغ هو المتسيّد، حتى سريره الكبير فقد من كان متحاوراً مع الملك وهذا دال على غياب امرأة لم تترك نير كرسيها الاصغر حجماً مجاوراً لكرسي الملك الذي لا يقوى على البقاء بدون تاجه الملك واوراق شجرة التوت تتساقط صفراء على رأسه وكرسيه، ودائماً ما يزيحها كبير الخدم. الفصل خريف، خريف السلطة والملوكية، خريف الحياة التزامن الفني كشّاف في النص والمسرح اول الفنون المستمرة للتزامن. ويلاحظ بأن الحوار ازدحم بمفردة الخريف لتختصر مصير الملك الوحيد، المنهزم والفاقد لسلطته وممتحناً بالخواطر المثيرة له واقتراب المصير المؤجل والذي يدنو ويقترب سريعاً، وفي الحوار اشارات سريعة دالة على ذلك، واكثرها ايحاءً بذلك، ارتباك ذاكرة الملك وضعفها، حتى انه نسي اسم كبير الخدم. وتحول تاجه الملكي الى مكب للأوراق الصفراء المتساقطة.
كبير الخدم: شجرة كريمة النسب سيدي، حتى لكأنها من نسل الملوك.
الملك: انظر اليها.... لقد بدأت تتجرّد، وهكذا حالها كل خريف.
كبير الخدم: (ينظر الى الشجرة الكبيرة ويقول بلهجة حزينة) نعم سيدي ولكن لا يرى سيدي بأنّنا في كل حال تتجرد فيه، بلغنا حزن ما، حتى وان كنا في اسعد لحظات بهجتنا... ام ان الامر يخصني وحدي سيدي؟
الملك: (منتفضاً) لقد صدقت، وانت تتذكّر كم كنت في صباي اقف تحتها، وهي تنفض اوراقها على رأسي، كان الامر يسليني بقدر ما كان يحزنني (يحدث نفسه) ما أغرب الحالة التي يتداخل فيها الحزن والسعادة في لحظة واحدة... يا إلهي ما أفظع ذلك "يعود يكلم خادمه) كانت تنزع رداءها لا لتلبس رداءها الجديد، كنت اراها عارية، تخلف عنها معظم طيورها/ ص 9.
إنّ قصدية استحضار الرموز، سرعت الاقتراب لمعرفة خاتمة النص ونهاية المأساة الملكيّة، لان النص استطاع قول ذلك اعتماداً على الرمز والعلامات والاستعارة احياناً وتعرفت اما للخاتمة واضحة بعد قراءة اثنتي عشرة صفحة وهذا ما اعنيه بالإشارة الاولى التي ذكرتها. الموضوع حساس وذكي، فيه التماعات ممتازة، لكن حركة النص تعطلت ولم يستطع القاص حنون مجيد ابتكار ما يساعده على دفع النص باتجاه الحركة السببية، لان عزلة الملك مثلما كشفت عنه المسرحية لا تعني غير الزوال وحصول المأساة.... انها النهاية التي يعرفها الملك: تتفاقم الاصوات وتعصف الريح فتنفض الشجرة العملاقة آخر أوراقها على الجسد الذاوي على كرسيه والارض المحيطة به /
ص 42//.