في عيد ميلاد الصوت الملائكي (فيروز)

ثقافة 2019/11/23
...

د. نادية هناوي
 
استذكرنا في 21 تشرين الثاني عيد ميلاد السيدة فيروز التي لها في قلوبنا مكانة مميزة بوصفها رمزاً لكل قيم الجمال والسلام والاطمئنان. ورمزية فيروز تعلي فينا نحن العرب معاني الرفعة والسمو التي بها تغدو الحياة ينابيع من المحبة والوفاء والإباء. ولقد سئل أحد النقاد الفنيين الكبار عن أجمل الأصوات في الساحة الغنائية، فذكر أسماء كثيرة ليس فيها فيروز، وحين سأله محدثه لماذا لم تذكر فيروز؟ قال: لأنّك سألتني عن أصوات البشر ولم تسألني عن أصوات الملائكة.
نعم فيروز بجلال صوتها وعلو كبريائها وصمودها في وجه المحن، أثبتت أنها ملاك يطبع على الوجود قبلة الحياة فتنتشي بالآمال والجمال. ولنا أن نعبر عن حبنا واعتزازنا بملائكية فيروز مطربة وانسانة باشكال شتى نستلهم عبرها عبق هذه الذكرى وما تحمله من رموز جديرة بالتأمل والاعتبار. ولي بهذه المناسبة أن أحيي الكبيرة فيروز، فأقول: 
أحيي في عيد ميلاد السيدة فيروز ملائكية الصوت الندي وزهو الألحان،أحيي الصوت الذي أذكى المشاعر وألهب النفوس فكان رمزاً للمحبة والعنفوان، أحيي فيها أغانيها الخالدات وأنغامها الشجيات التي ستظل أناشيد يرددها الزمان، أحييها أغنيةً جميلة تُغزل على صوت العود، فيغنيها الوجود وهو بالزهو ملآن، أحيي أنفة الروح وسمو الشعور وألق المحيا وما فيه من علو شأن وافتتنان، أحييها وهي تترجم أجمل المواقف الوطنية تهديها للعرب كل العرب في كل الأوطان، أحييها تغني لبغداد الشعراء والصور يغسل وجهها القمر بضوع العطر وذهب الزمان، دارَ السلام قبابها قصّة وواحةً في الدهر مزهرةً بالعزّ تزدانُ والليالي زهت والعمر نشوانُ، أحييها تغني لأجلك يا مدينة الصلاة أصلّي لأجلك يا بهيّة المساكن يا زهرة المدائن، أحييها تغني لبيروت هل ذرفت عيونك دمعة، ولمصر التي عادت شمسها الذهب والشطآن، أحييها تردد يا شطّ اسكندرية يا شطّ الهوى وغنت بحبك يا وطني بحبك يا لبنان، أحيي فيها نبرات الحنو الوسنان وإيقاعات الصبا والندى والشدو الفتّان، أحيي في فيروز كل قيمة من قيم السماء وكل نفحة من نفاحات الجنان، سبعون عاما وهي تعطينا مفاضلها شآبيب حب ونغم وضياء ومجد وعرفان، هي جار القمر ونسيم هوى الوادي والشموسة يا محلى نورها وقمر عشقان، وبعدك على بالي يا قمر الحلوين ولاعِب الريشةَ واهْوَ، وكان ياما كان، هي درج الورد جنّة حمانا وبين الورد طاير بيتنا، وأنا وزغيرة من زمان، وطير الورار وبلبل عم يلوح وكيفك انت وعندي ثقة فيك وبيكفّيك وعين الرمان، فيروز ندى الصباح الذي يعطر بشذاه أسماعنا وملح الكلام الذي فيه عبق وريحان، نعلن لها محبتنا نجمة الكتب وسيدة الأفنان التي وحدّت القلوب كما لم توحده أديان،أعطتنا الكثير فلنا أن نوفي منه القليل بصمودنا واضعين العراق في الأحضان، ونحن نحيي فيروز ميلادها، نقول: نعم للسلام ولا للطغيان، نعم للحرية والأمان، ستظل بغداد هي الشعراء والصور ابنة الماضي والحاضر والآتي المبان، مشوار فيروز فينا يصدح من القدس العتيقة إلى بغداد فنكبّره كل أذان، صمودنا في التحرير أغنية فيروزية تعطرها أنسام الورد ويؤطرها الليلك والزعفران، صمودنا أحلى هدية نرسلها لفيروز في عيد ميلادها إضمامة من عز وشموخ وامتنان، صمودنا على الحق في وجه الباطل هو الجمال الذي له غنت فيروز في كل آنسيذكّرها نزولنا إلى سوح التظاهر وهتافاتنا ولافتاتنا بورق تشرين وبكرة بيجي نيسان.
هكذا هي وأكثر فيروز الليلك والعقيق والجمان فيروز الفطنة واللوعة والجمال التي لها في قلب كل عربي ساحة وميدان. مشوارها الغنائي مفخرة لكل العرب لأنه مشوار صادق في فنه ومؤمن بقيمه وكبير في عطائه ومناضل من أجل الانسان وللانسان وفي الانسان. هو مشوار ماجد ومخلد في ما سيتركه للاجيال من بعده، وحقيق بنا أن نفخر به ونخصص له من مشهدنا الثقافي وقفة تناسبه نستذكر من خلاله ما غاب عن أفقنا الحياتي من قيم التسامح والتعايش والاخاء والمحبة والتواضع. نتعلّم منه دروسا بليغة في الثبات على الموقف وعدم المهادنة والمساومة او العزلة والانزواء.
ولعل اللبنانيين قد أحسنوا التعبير عن وفائهم لهذه المطربة القديرة حين قطعوا بحشودهم الطريق المفضي الى المحكمة ومنعوا مثولها امامها في قضية حقوق الملكية التي اقامها عليها ورثة فنانين راحلين شاركوها في أعمالها الفنية وكان القضاء اللبناني رائعا حين رد الدعوى باعتبار فن فيروز إرثا وطنيا وليس ميراثا شخصيا. وهنا نتذكر قضية مماثلة في العراق حينما اوقفت ابنة الشاعر الكبير بدر شاكر السيّاب عرض مسلسل عن حياته مطالبة بحقوق مالية باهظة من منتجيه فحالت دون تخليد عبقرية هذا الشاعر الفذ في مسلسل فني كما اضرت بالجهود الفنية والمالية للفنانين والمنتجين ونقترح هنا أن يصار الى قانون يستثني عطاء المبدعين الكبار من الحجب لأسباب شخصية باعتباره ملكا وطنيا لا شخصيا أو تحديد ذلك بضوابط معقولة تفضي في النهاية إلى عدم العرقلة.
أعود فأقول، لقد غنت فيروز قصائد من عيون تراث الشعر العربي لكبار شعرائنا الأقدمين كأبي نواس وأبي العتاهية ولسان الدين بن الخطيب وجميل بثينة والصمة القشيري وابن سناء الملك، كما غنت لكبار شعرائنا المعاصرين جبران خليل جبران وايليا أبي ماضي وإلياس أبي شبكة وبشارة الخوري وبدوي الجبل وأبي ريشة ونزار قباني وميخائيل نعيمة، فأشاعت بذلك شعرهم على ألسنة الملايين. فلفيروز في عيد ميلادها ألف تحية ياسمين وزيزفون.