ما أريده هو الكفّ عمّا نحتجُّ به من أسباب كانت مقبولة أو مرضية في الاحتجاج وأن نرتقي او نهتم بجديد سواها. فليس معقولاً ان تتطور وتتسع المعارف ولا نفارق معارفنا الاولى بل نظل نعتمدها تسويغات او ردوداً. من هذه في الادب، ابتعاد الشعر وابتعاد الفن وتضاؤل حضورهما في الحياة الجديدة ولا أظن اشكال القصائد ولا استعارية لغتها ولا الصياغات التي تسم الشعر او الفن بالغموض او الابتعاد، من ثمَّ خفوت حضورهما في الواقع الحي، في حياتنا.
في مراحل التطور العلمي وحين يصير العلم هو معرفة العصر الرئيسة، يصير الناس معنيين في الحقائق، والحقائق الملموسة حساباً او تحليلاً أو تكويناً. ونحن وان كنا ما تزال للرومانسية تأثيرها في المخيلة والاختيار وما تزال تلامس أرواحنا الذكرى والحلم ونأمل من الحياة أكثر مما يمكنها ان تعطي، وللظروف علينا وعلى رغباتنا ومصائرنا أحكامٌ لا تقبل الرد، مع ذلك العلم دخل مفردات الحياة ودخل ثقافتنا ومنازلنا وفيما نأكل ونشرب ونرى. ولهذا لم تعد ارقام "الحجاب" أو "التميمة" هي الدواء، صارت وصفة الطبيب والكيمياء التي تقدمها الصيدليات صيغاً وتراكيب ولها اشكالها وألوانها هي الدواء المعتمد.
ولهذا نحبذ تفاسير أخرى وإجابات أخرى عن غياب المعنى أو عدم وضوحه وعن اغتراب الفنون وغربة النصوص وسوى ذلك من تساؤلات. هي ليست جهالة الناس وانشغالهم ولهوهم. هذه مقولات يمكن ان نجدها إزاء أي مهنة أو عمل أو حتى لعبة لم تعد يهتم بها احد.
الاسباب الحقيقية تكشفها اليوم الهرمونيطيقا وما انجزه فن التأويل. منهما نعرف اليوم ان الفن "هو أكثر من ذوق أو ظاهرة جمالية. هو عالم يكشف لنا عن حقيقة نشارك فيها. ولا يمكن إدراك هذه الحقيقة بمنأى عن الواقع والحياة الإنسانية وسيطرة او شيوع العلوم ومناهجها الطبيعية وسيطرتها عالمياً على العلوم الإنسانية ومع سعة الميل والحاجة المتزايدة الى الحقائق العلمية. إننا بحاجة الى علوم لكشف الحقيقة المضمرة – خبرة الفن وما يترتب عليها من خبرة إنسانية.
الادب والفن اللذان يزخران بالخبرة الإنسانية يجتذبان الافراد بمستوياتهم الثقافية. بل ان الخبرة المكتظة تطفح إليهم وتكون متآلفة بل تعانق خبراتهم غير المعبر عنها. ولذلك تجد المباشرة قبولاً لدى مستوى ثقافي اعتيادي وتجد النصوص العميقة قبولاً بل تشوقا لمستوى ثقافي متقدم.
وثمة مسألة وراءها الكثير من مربكات أو مصدات الفهم. تلك هي أنّنا ورثنا اللغة، ورثنا مفردات محملة بدلالات ونريد هذه ان تمثلنا. هي ليست التعبير او العبارة او المفردة التي اطلقتها حاجتنا الآنيّة، نحن نحشر احتياجاتنا في قوالب صنعتها اجيال قديمة متتالية. وهذه لا تبقي الدلالة عندنا مثلما نحس بها ونريد. هنا اشتباك غير مرئي بالجديد، بالشخصي وبالحداثات المتتالية.
ولهذا نحن بحاجة الى فن استدلال غير الذي ورثناه. ومن هنا أيضاً كانت الهرمونيطقيا اكتشافا عظيماً. كانت وراءها فتوحات في التأويل، مما يجعلنا نأتلف وسلطات العلم التي لا تساوم ولا تخدع ولا تضيعها ألوان التعابير. هي ما تزال اقل ثباتاً من الحقائق العلمية ولكنها استنتاجية عقلية اكثر مما مضى. وهنا تفسّر نظرية "غدامير" بأنها تنبع من شعوره العميق بالاغتراب الذي يعاني منه الإنسان الغربي ويتجلى بطرائق مختلفة حددها غدامير نفسه في: الاغتراب الجمالي والاغتراب التاريخي.
حقيقة الامر هو ليس اغتراب الإنسان الغربي وحده. هو اغتراب المثقف في العصر. ما دام ذلكما الاغترابين يتصلان باغتراب الذات، ويعكس الانفصال الذي اتسع بين الذات والموضوع، بين الكاتب ولغة الكتابة وبين الكاتب وقارئه. المشكلة اليوم باختصار مشكلة الخطاب الادبي والفني والارتياح المتسع للخطاب العلمي حيث المفردة محددة الدلالة والحقائق لا تطالها كثيراً مرونة التأويل..
النظريات الجديدة في التداولية والتأويل مثلا، تسعى من خلال الفهم والتفسير الى ردِّ الارتباط بين الإنسان وعالمه الجديد والمختلف عن الموروث. حيث اللغة مختلَفٌ على نوع ومدى فعلها. فقد يكون الايصال اليوم غير مؤتمن وهنا تضاف الى الاغترابات غربة النص، وكل قراءة تسهم من جديد في صنعه او استملاكه!
ولأنّ العقل لا يكف عن الاجتهاد، فقد بدأت أو أدركت هذا نزعة لا ترتضي المنهج العلمي طريقاً وحيداً للحقيقة. فالحقيقة، في رأيهم، دائماً قبل أي منهج. وهذا يترك الباب مفتوحاً أبداً من جديد مؤكدةً على وجود عالم نحيا فيه من خلال خبرات سبقت المناهج. والأكثر إلماماً بالحقيقة هو الحوار الحر عما وراء ارادتنا وفعلنا مادمنا نسكن هذا العالم وتحت شروطه. وهنا تحضر الابستيمولوجيا او المعرفة، فمن غيرها لا نرى أي شيء مما نبحث عنه.