شظيّة في مكان حسّاس .. ثيمة أنثويّة من وجهة نظر ذكوريّة

ثقافة 2019/11/26
...

 عقيل أبو غريب

 
 
يفاجئنا الروائي وارد بدر السالم في آخر إصداراته السردية بعنوان مختلف، وتجربة لا تخلو من الجرأة، في تناوله لموضوعة الحرب من خلال شظية صغيرة  تستوطن مكانا حساسا في جسد امرأة، بعد انفجار آخر مفخخة في بغداد. الرواية من إصدار مؤسسة ثائر العصامي للنشر؛ الدار الوحيدة التي وافقت على نشر الرواية ورفضتها أكثر دور النشر بحجة إيروتيكيتها حسب ما جاء في تظهير الرواية؛ وهذه المبادرة  تحسب للقائمين على الدار، الذين تفهموا الرواية ببعدها الإنساني الذي يقصده الروائي.  
 لم يغب عن المتتبع للرواية العراقية وخاصة بعد 2003 الكم الهائل من العناوين السردية باختلاف المضامين وتنوعها، فبعضها لم يرتق لأن يكون ضمن المشهد الروائي العراقي، والبعض الآخر حاول أن يؤسس لمشهد عراقي جديد، خاصة بعد فسحة الحرية التي أتاحت للكثير بأن يكتب بلا قيد أو تحفظ عن مواضيع لها تأثيرها المباشر في المتلقي دون رقابة أو وصاية من أحد، مما عهدناه في حقبة النظام السابق، ولهذا نرى منهم من خاض التجربة بمصداقية عالية وبراعة يشهد لها القاصي والداني حتى وصلت الرواية العراقية إلى أن تحصد الجوائز الكبيرة في الكثير من المحافل الدولية. 
ربما يتبادر لذهن البعض سؤال مفاده بماذا كان يفكر الروائي وهو يكتب عن هذه الثيمة الغرائبية؟! لامرأة تعمّدت الحرب أن تصيبها في المكان الحساس من جسدها إذ توزعت عدة شظايا فيه لتشويهه.
لقد وجد السالم في هذا المكان المحرّك للانطلاق بالرواية إلى الأمام ليكون الشاهد على بشاعة الحرب وهي تسلب عفة المرأة بفعل شظية بحجم رأس الدبوس، لتشوه صورة براءة وجمال تلك المرأة؛ الشظية التي حملت معها آثام الحرب وهي تتحرك في مكانها لتحرك معها مواطن الوجع واللذة المفرطة في جسد الزوجة المسكينة نور؛  وقد أبت الحرب بعد أن وصلت إلى نهايتها إلا أن تسلب عفة وحياء تلك المرأة تمهيدا ربما لسقوطها قسريا في فعل الرذيلة فقد أخذ الزوج يراها تارة تخرج من السوبر ماركت بصحبة شاب وسيم وأخرى يرى القصاب وهو يخرج من بيتهم، إلى آخره من الصور الكفيلة بتشويه صورة الزوجة المخلصة – وهذا طبعا من صلب أهداف الحرب غير الظاهرة للعيان، والذي أراد الروائي فضحها من خلال شخصية الزوجة المنقادة لرغبة الحرب المزروعة في داخلها عبر هذا الجسم الغريب الذي دخل فجأة وعلى حين غرة في منطقتها الحساسة ليقلب عليها المواجع ويثير فيها رغبة وحشية ممضة ليكون تأثيرها على الزوج مؤلما ومخجلا؛ فنراه بالأخير عاجزا عن تلبية حاجة تلك الرغبة في هروبه من متطلبات زوجته الشرعية والإنسانية في المعاشرة، وتوطيد علاقته بصاحب الصيدلية الشاب لإسكات صرخات الحرب المدوية في جسد امرأته والمتسببة له ولها بأرق ووجع مستديمين. 
 لقد تعمّد السالم في روايته هذه  أن يكون الزوج هو الراوي وهو البطل القوي الماسك بزمام الأمور بقوة وحب قل مثيلاهما، وقد جاء الروي من وجهة نظر ذكورية لأسباب أجدها ويجدها معي القارئ للرواية بتمعن منطقية إلى حد ما، خاصة مع مشكلة تخص المرأة أكثر مما تخص الرجل؛ فقد تجنب الخوض في متاهات لذة المرأة وابتعد بذكاء العارف عن سرد أنثوي غير مبرر وربما يثير حفيظة القارئ، وفضّل أن يكون إحساس المرأة ولذتها فيما ينعكس على الزوج ويدركه ويشاهده هو فقط؛ ويتابع ما يطرأ من تغيرات في سلوك زوجته من وجهة نظره الذكورية، حتى لايقال بأنه قد أقحم نفسه في شيء ربما لن يستطيع معرفة كنهه مثلما تعرفه المرأة ذاتها، والرجل هنا شرقي بملامح عربية إسلامية، ومن ثمّ يقع على عاتقه تحمل مسؤولية الزوجة دينا وعرفا، فكان لزاما عليه ومن أولويات واجباته أن يسعى جادّا لحل مشكلات زوجته أيا كانت تلك المشكلات؛ هو البطل وهو من وقع عليه فعل الزوجة، وهو المسؤول الأول عن أسرته؛ وقد جعله السالم يمسك بزمام أحداث الرواية بقصدية واضحة. 
الرواية عبارة عن صرخة مكبوتة لامرأة كانت ضحية حرب قذرة، فأسرة الرواية عبارة عن وطن مصغّر والتي باتت على شفا حفرة من الانهيار مثلما هو الوطن الذي أخذ يأكل من جرف عفته وصدقه وأخلاقه وطيبة ناسه ليقع ضحية حفنة من المنتفعين الذين عاثوا به فسادا وسرقة.
 أما عن العلاقات الموجودة داخل الرواية، فباستطاعتنا أن نحصرها في ثيمتين رئيستين رمزيتين، الأولى رغبة المرأة الفاضحة والقاتلة المتمثلة بنور، وفي الثانية انطفاء جذوة اللذة والحب عند المرأة الأخرى زوجة رئيس القسم في مكان عمل الزوج، وما نلاحظه من انعكاس ذلك على تنامي العلاقة بين رئيس القسم وبطل الرواية ليكمل الواحد الآخر، الموت مع الحياة والحياة مع الموت .. وكان للكلب صورة واضحة المعالم في سير أحداث الرواية، فقد لعب دورين قسريين وهما المنقذ والخائن في ذات الوقت، ومن وجهتي نظر مختلفتين، واحدة لدى المرأة والثانية لدى الزوج، وقد مثله السالم بالجسد الغريب الذي دخل الأسرة مع الاحتلال وما صاحب هذه الحقبة من فوضى واقتتال وعدم أمان ليحمي نفسه وأسرته، ليجد في نهاية المطاف بأنّه مضطر للتخلّص منه، فقد أمسى يمثل خطرا أخلاقيا حقيقيا على الزوجة وعلى الأسرة بصورة عامة بعدما باتت الزوجة تدخله معها عدة مرات إلى الحمام بحجة تحميمه، وبشهادة ابنتها الكبرى - وبتوصية من الطبيبة النفسية بأن الزوجة ربما تستغل هذا الكلب في اطفاء رغبتها الجنسية المتأججة بفعل شظية الحرب المتحركة بداخلها، فقد فكر جديا في التخلّص منه عن طريق بيعه أو إهدائه لأقاربه بطريقة ذات مغزى إنساني كبير، دون أن  يخطر في باله ولو للحظة واحدة بأن يقتله وينهي الأمر، لكنه أراد أن يقول أن بطل الرواية شخص مسالم مثلما هو طبع الإنسان العراقي البسيط متحديا بأخلاقه كل الحروب القذرة التي خلفت آثارها في جسده المثخن بالجراح ليقف صامدا في وجهها متحديا بسلامه نارها المستعرة ..
(آخر الحلول الكي ) :
وبالأخير فإنّ عملية ختان الزوجة التي اقترحها الدكتور أنمار كانت آخر الحلول ومعناها أن الحرب قد قامت بواجبها على أتم وجه في سلبها لسعادة ووجود الانسان العراقي، لتقتل كل شيء جميل فيه، ولكن ارادة الحياة تنتصر دائما، وإن كان ثمنه باهظا احيانا.