ياسين النصير
تطبع حياة المثقف العراقي فكرة الوثوب والتوقف، وهي فكرة قائمة على عدم إمكانية الوثوق كليّا بالحركة الاجتماعية للتقدم، كما يتصورها فكرًا وممارسة، وعدم الوثوق بقدراته على تحقيق احلامه. ولذلك هو من أشد المتحمّسين للتغيير، إلّا أنّ مساهمته فيه نادرة او قليلة.
قد لايكون هذا التوصيف دقيقًا في كل مراحل التصور عن طبيعة المثقف، ولكنني آراه توصيفًا لا يجانب الحقيقة وهو أن المثقف لا يؤمن بحتمية التاريخ في التغيير من دون وجود شرائح اجتماعية مختلفة الانتماءات تتحسس عبر معاناتها الأوضاع الاجتماعية السائدة فتثور ضدها، ويبنى في ضوء مشروعها يوتوبيا ولو بسيطة تعبر عن
طماحه.
كانت ثورة تموز 1958 واحدة من اليوتوبيات البسيطة التي مهّدت للمثقف أن يختصر الكثير من الأسئلة ويركزها في السعي لبناء وطن جديد، ولكن هذه اليوتوبيا البسيطة والتي كانت شروطها شبه متحققة، ارتبطت بمنعطفات السياسة، فكان مصيرها مصير تلك السياسة، لأنّها، وبوضوح لم تتأسس في الجامعة ولا في مؤسسات مجتمع مدني. أما ما يحدث الآن، فالصورة عن الحداثة تكاد تكون مضبّبة إن لم تكن غائبة، مما يتيح للمثقف ان يؤكد عبر نشاطه أنه متيقن من نجاح هذا التغيير، ولكن بحدود، فالأمور ما زالت غامضة بالرغم من وضوحها، أولًا لابتعاده كليًا عن المساهمة فيه، والاكتفاء بالمراقبة، وثانيًا لشيوع مناهج ثقافيّة لا تمت بصلة للحداثة. بينما كان طماحه الذي بنى عليه تصوره هو السعي نحو مشروعات صغيرة أولا كي يبني عليها تصوراته اللاحقة.
إلا أن ما كان يفكر به جرى تبسيطه وتهميشه ومن ثم إلغاؤه. فالبنية الاجتماعية التي قامت في السنوات الست عشرة الأخيرة على اقتصاد مشوّه وأرضية بشرية غير مثقفة، وارادات غير كفوءة تسلّمت دوائر البنية الاجتماعية والتنظيمية، جعل التفكير بمشروع الحداثة مجرد أحلام، وقد استثمرت القوى القومية والمناطقية والعشائرية هذه الرؤية الارتكاسية لمشروع الدولة
، فكانت النتيجة تخريب حتى الممارسة الشعبية لهذا الحراك التاريخي المفصلي. ومن يمعن النظر في الثقافة الشعبية العامة التي تمارسها قطاعات واسعة من الشعب في الاعياد والتعازي والعمل، لا يجد فيها أفقًا معرفيًا يمكن استثمار الروح الشعبي كما فعلت دولًا عديدة عندما انهضت قواها الشعبية وثقافتها العادية وممارساتها اليومية وطقوسها والمثيولوجيا وجعلت منها هوية لبلادها، وحين قوي عودها وجدت نفسها في المجال المعرفي العالمي للحداثة، فالفنون الشعبية البسيطة يمكنها أن تحمل هوية وطنية لو جرى استثمارها علميًا، ففي الصين واليابان وشرق أسيا واميركا اللاتينية قامت مفاصل كثيرة من حداثاتهم على الجذور الشعبية، وصيّرت تلك الممارسات رياضة جسدية وعقلية يمكن ان نقول ان الواقعية السحرية واليوغا ومسرح النو، وغيرها، امثلة على هذا التحول من الاسلوب الشعبي إلى الاسلوب الحداثي. أما نحن ابناء المثيولوجيا والحكايات والممارسات الشعبية قد اغفلنا هذا الإرث وصوبنا نظرنا نحو المقدّس فأضفينا على كل الأرث صفة المحرم
، ولم نرفد من وجهة ثانية تصورنا الثقافي بأي منتج عالمي، وها نحن نرى أن حياة المثقف قصرت على انتاج نصوص ذاتية أو حول تجاربه الشخصية الى نصوص أدبية، وفي مجملها كانت نصوصا لصوت الذات، مفردة ومغناة بلسان واحد كما لو أنه يكلم نفسه، فبدلًا من كلام الأحلام، اصبح كلامه مكتوبا بلسان المفرد. لايؤمن هذا المثقف المعاصر بأن البناء الروحي والتعاليم الدينية قادرة هي الأخرى على الاستجابة لمطامحه ورغباته في إدامة التغيير المنشود، لو انها تجردت من الأوهام وارتبطت بمصائر الناس، لأن التجربة كانت واضحة عندما استغلت البنية الروحية للشعب لصالح حفنة من المرتزقة، لذلك يبقى المثقف مراوحًا بين الاثنين منتظرًا لا فاعلًا، وهو ما يشير إلى خلخلة في وعيه بالرغم من انحيازه الظاهري لحركة التغيير الجماهيرية، فقناعاته الجذرية كانت مبنية على الشك وعدم الوثوق بأي تصورات ايديولوجية غير مستقرة في مجتمع تحكمه إرادات
مختلفة.
لا تصنع الأحداث المثقف دون أن تكون مفصليّة، ما نعيشه اليوم في ساحات المواجهة مع التاريخ القديم، هو مادة لا تنضب لرؤى التاريخ المقبل، المثقف الحقيقي يصنع هنا، ومن ذات الموضوع تتوالد التراجيديا مصحوبة بفكاهة السخرية من الذين امعنوا في تغريب الشعب وهم من كانوا في مقدمة المطالبين بالحرية، كل ثورة لم تحسن إدارة شؤونها تتحول إلى مؤسسة صيانية؛ تستدعي القومية تارة، والطائفية تارة أخرى، والدينية في مرحلة الانهيار، ولذلك على المثقف أن يفرز بين التواريخ المفصلية، لا بين مراحل وشخصيات، هنا، ومن داخل حركة التاريخ تبدأ الكتابة دون أن يدبجها
أحد.