اعرفْ نفسَكَ... سايكولوجيا الوهم

ثقافة 2019/11/27
...

محمّد صابر عبيد
 
"اعرف نفسك" قال سقراط (469 ـ 399 ق. م) فيلسوف اليونان العظيم الباحث عن الحقيقة هذه العبارة ببساطة فلسفية مدهشة ولافتة وثرية، وعلى الرغم من قِصَرِ الجملة وانسيابيتها ورقّتها وتاريخيتها ومقصديتها العالية غير أنها ظلّت علامة فارقة من علامات هذا الفيلسوف ولازمة من لوازمه الفلسفية الخالدة عبر التاريخ، وهي بلا أدنى شكّ مشكلة الإنسان في عصوره كلّها لا تكفّ عن إنتاج ذاتها كلّ حينٍ وآنٍ.
 لتفرّق بين إنسان حقيقيّ "يعرف نفسه" ويدرك حجمه ويتعامل مع محيطه الاجتماعي والثقافي على أساس هذه المعرفة، وآخر مهرّج يهرف بما لا يعرف وهو يرى نفسه في مجموعة مرايا عاكسة أكبر كثيراً من حجمه فارضاً هذه الرؤية على ما حوله ومن حوله، ولعلّنا لسنا بحاجة للحديث عمّن يعرف نفسه لأنّه واضح المعالم وتحدّثت عنه الفلسفة اليونانية القديمة وما أعقبها من فلسفات متطورة ومتغيّرة حتى يومنا الراهن، لكننا قطعاً بحاجة دائمة للحديث عن سواه ممّن تمكّن الوهم منه فصار مريضاً به لا دواء له ولا شفاء، في قضية سايكولوجية تعدّ اليوم من أهم قضايا هذا العصر وربّما العصور المختلفة الأخرى.
من معاني الفعل "هَرَفَ: يهرفُ" في المدوّنة المعجمية العربية أنّ الرجل إذا هَرَفَ فقد هذَى وخلَط في كلامه، وهَرَفَ بِالرَّجُلِ يعني جَاوَزَ الْقَدْرَ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ إِلَى دَرَجَةِ الْهَذَيَانِ، وهَرَفَ الرَّجُلَ إذا مَدَحَهُ وبَالَغَ فِي مَدْحِهِ بِلاَ خِبْرَةٍ وَعَنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ ودرايةٍ، وكم من هذا يحصل اليوم في ظلّ غياب التعريفات الدقيقة التي يمكن بوساطتها وضع الحدود للأشياء والأشخاص والحالات، لنرى الألقاب العظيمة توزّع بكرَمٍ لا مثيل له على من لا يستحق من هارفين لا يعرفون ولا يدركون، ويصدّق من لا يعرف نفسه هذه الألقاب ويشيعها ويجمع حوله من يديمها ويضع زيتاً خاملاً عليها كلّما خبتْ نارها وأوشكت على الغياب.
لم يكتفِ الهارفون بإطلاق صفات: الشاعر، القاص، الروائيّ، الناقد، الفنان، المفكّر، المنظّر، المثقف، التي لا يحصل عليها ولا يليق بها سوى ثلّة قليلة جداً من أولئك الذين اصطفاهم الله كي يحملوا هذه الألقاب عن جدارة واستحقاق وكفاءة، وهم القلّة الهائلة، بل راحوا يجذّفون بصفات مضافة مثل الكبير والعظيم والفذّ وغيرها ممّا يسيء أوّل ما يسيء للصفات نفسها، ومن بعد ذلك للغة التي أنتجت هذه الصفات، ثمّ وأخيراً –طبعاً- لمن تُخلعُ عليه زرواً وبهتاناً وهو أبعد ما يكون عنها وعن طبقات كثيرة مما هو دونها حتماً.
فحملُ أيّة صفة من هذه الصفات إنّما هي مسؤولية تنويرية حضارية كبرى لا يحظى بها كلّ من "هذى" بسيل من كلمات حبّرت أوراقاً عديدة لا قيمة لها أو بالأحرى لوّثتها، يعدّها شعراً أو قصّة أو روايةّ أو غير ذلك من فنون القول، بل من أنجز جديداً في مجاله لم يسبقه إليه سابق بحيث تكون كتابته متناً أصيلاً لا يشبه سواه لديه ولدى الجميع، وإذا ما التفتنا -على سبيل التذكرة فقط- نحو عصور الشعرية العربية سنجد أنّ كلّ عصر ترك لنا من شعرائه بعدد أصابع اليد، فعلينا أن نتخيّل كم هم عدد الشعراء في العصر الجاهليّ مثلاً أو العصر العباسيّ أو الأندلسيّ حتى نحظى فقط بعشرات منهم وتذهب مئات آلاف الشعراء شتاتاً في غابة النسيان! فما بالك في عصرنا الحديث حين نرى الشعراء والقصاصين والروائيين والنقاد يتكاثرون بطريقة أخطبوطية مرعبة وهم يقتاتون على موائد الآخرين، تلك التي كانت عامرة وفائضة قبل عصور ودهور وأزمان سحيقة؟
في بلد مثل العراق على سبيل المثال عدد نفوسه أكثر من ثلاثين مليون نسمة يكفيه ثلاثون شاعراً وثلاثون قاصاً وثلاثون روائياً وعشرة نقاد لا غير، يتوزّعون بين مساحة زمنية معقولة يمكن تحديدها بـ"مئة عام"، ولنقل ابتداءً من عام 1920 حتى الآن، بوسعهم حمل راية الأدب والثقافة العراقية بكفاية ودراية وحضارة وإبداع، ولينتظم بعد ذلك من يظنون أنفسهم شعراء أو قصاصين أو روائيين أو نقاداً خلفهم بوصفهم غاوين حسب، فما أكثر الهراء الذي أنتجه شعراء كبار! وقصاصون كبار! وروائيون كبار! ونقاد كبار! بين ظهرانينا، حتى أنّنا بحاجة إلى زلزال فادح كي يمحو أكداس هذا الركام من فضلات الكلام ليجعل سماءنا أصفى وحياتنا أجمل ورؤيتنا أنقى ومستقبلنا أفضل.
أيّها الشعراء والقصاصون والروائيون والنقاد والمفكرون والفلاسفة -لأنّني أحبّكم (ولا أستثني نفسي)- كفّوا عمّا تهذرون وابحثوا عن مصائر أخرى تليق بكم كبشرٍ يحلمون بالجمال، فالحياة واسعة جداً في الخارج ويمكنكم العثور على أنفسكم في أمكنة أخرى أكثر نوراً ممّا تقبعون فيه من ظلمة واهمة وجوف سحيق، فالوهم المهيمن علينا جميعاً لن يرحمنا في نهاية الرحلة إذ سيتخلّى عنّا وسنكتشف أنّ كلّ ما دبجّناه ليس سوى كلام فارغ، يكفي أن نكون قرّاءً محترمين نستمتع بما يبدعه الشعراء الحقيقيون والقصاصون الحقيقيون والروائيون الحقيقيون والنقاد الحقيقيون والمفكرون الحقيقيون، فالقراءة الأصيلة إنجاز ثقافيّ كبير يدعونا أنّ نفخر بها بوصفها عملاً حضارياً تنويرياً لا بدّ منه، أمّا أن نصرّ على الوهم ونتمسك بحباله الهشّة بغباء وقلّة معرفة وغياب وعي فهو ما يجعلنا نخسر المَشْيَتين، وهو ما يجب أن لا نرضاه لأنفسنا لأننا أناسٌ وُجدنا على هذه الأرض كي تستحقنا ونستحقها.
الأدب قدرٌ لمبدعين خلاقين قلائل يعيشون تجارب عميقة ومتنوعة وشاسعة في الأمكنة والأزمنة والحالات، يخوضون في طبقات الحياة مخترقين زواياها وطيّاتها من الجهات كلّها إلى الجهات كلّها طلباً لما هو بِكر وجديد وحديث ونادر، فكيف لمن لا يتحرّك سوى في مساحة محدودة ولا يرى فيها سوى أشخاص يشبهونه ولا يجازف ولا يغامر ولا يسافر، ولا يتعلّم غير ما يعرف، أن يدرك معنى الأدب والكتابة والإبداع، كيف؟ 
التجربة المحدودة مكاناً وزمناً وفعلاً تكتفي بنصّ واحد قد يقدّر له أن يكون جميلاً، لكنّها تظل تدور حوله وتعيد إنتاجه في دورة كتابية مملة لا تنتج سوى مزيد من الوهم والكذب على الذات والآخرين
 بلا جدوى.