التسقيط سلاح يفتك بنا

آراء 2019/11/27
...

عدنان فرج الساعدي
 
بدأية أحبّ أن أشير الى ما ذكره الفيلسوف الفرنسي "جوستاف لوبون" ( 1841 - 1931) صاحب كتاب (سيكولوجية الجماهير) إذ بيّن الخصائص الأساسية للفرد المنخرط في الجمهور وهي "تلاشي الشخصية الواعية، هيمنة الشخصية اللاواعية، توجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، الميل لتحويل الأفكار المحرّض عليها الى فعل وممارسة مباشرة، وهكذا لا يعود الفرد هو نفسه وإنما يصبح إنسانا آليّا ما عادت إرادته بقادرة على أن تقوده".
 واقتباسنا لهذه الكلمات من لوبون ليكون ايضاحاً وتوصيفاً لما نعانيه اليوم من مشكلة كبيرة عصفت بالمجتمع العراقي خصوصا بعد عام 2003 وهي التسقيط، وهذا الوباء الخطير أصبح سلاحاً خطيرا للمفلسين وذوي الارادات الخبيثة ليعبر فيها أولئك المفلسون عن فشلهم في الحياة إذ انعدمت فيهم القيم الدينية والاخلاقية.
ونرى اليوم أنّ التسقيط قد شمل جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، إذ أنه لا يعد مكلفا ما دام الشخص الذي يعمل فيه يستخدم حاسبته او جهازه النقال حيث ينزل منشورات فيها كلام خطير يحتاج لأدلة او وثائق او براهين على هذا او ذاك وهو غير خائف من الملاحقة، إذ عجزت السلطات طيلة السنين الماضية عن فرض اجراءات قانونية وقضائية تحد من هذه الظاهرة المشينة.
وقد تعددت اشكال هذا المنهج التسقيطي فمرة يكون المستهدف شخصيات ثقافية او اعلامية او فنية او عشائرية بهدف النيل من السمعة الأخلاقية لهم، وتارة نراهم يركزون على النيل من الجانب الديني، مع اتهامات بالتجسس والعمالة للدول الاخرى، وهي أخطر أنواع الأساليب التسقيطية.
واليوم وحيث ان الجميع يرى جمهور وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصا الفيسبوك والمتكوّن من فئات اجتماعية بسيطة غير مطلعة على اساليب التسقيط مما جعلها أن تكون فريسة لهؤلاء وهي تسهم مع الأسف في نقل الدعايات والتشويه والكذب والبهتان دون تروي او تثبت. 
إنّ جميع وسائل الاعلام تقف اليوم عاجزة أمام هذا المد الهائل الذي تنتجه وسائل التواصل الاجتماعي فانتشار الفيديوهات والصور المدبلجة وذات الاخراج التصميمي المثير وهي المادة المفضلة لجمهور  الفيسبوك اليوم في البيت والشارع واماكن العمل.
وهذه الثقافة الانهزاميّة ثقافة التسقيط تعكس الازمة والانتكاسة النفسية التي يمر بها الشخص أو المجموعة الى درجة ان تصبح المفاهيم الاخلاقية لديهم مفاهيم ميكافيلية، فالوسيلة عندهم مبررة مهما كانت بشعة لأنّ الغاية التي يسعون اليها ويستهدفون لتحقيقها هي بالتأكيد أكثر انحطاطاً.
   إنّها مجموعات وافراد تمارس رذيلة التسقيط وتعبر في ممارساتها عن انسلاخها من الشرائع السماوية والقيم الاخلاقية جميعا، فجميع الاديان السماوية والقيم الانسانية ترفض هذا المرض الاجتماعي الخطير لقوله تعالى {والذينَ يُؤذونَ المؤمنين والمؤمناتِ بغيرِ ما اكتَسَبوا فقدِ احتَمَلوا بُهتاناً وإثماً مُبيناً}. 
فيما ان الاحاديث الواردة عن النبي (ص) وكذلك أهل البيت قد حذرت من جريمة التسقيط واوضحت مصير من يمارس هذه الرذيلة والعقاب الأخروي الذي سيؤول اليه صاحبه بقوله : "من بهت مؤمناً أو مؤمنة، أو قال فيه ما ليس فيه، أقامه اللّه تعالى يوم القيامة على تلٍّ من نار، حتى يخرج مما قاله 
فيه".
اما اذا دخلنا في المضمار السياسي فإنّ حملات التشويه تحولت الى ثقافة مستديمة لدى الكثير من الكيانات السياسية وقواعدها الجماهيرية وتصل حمى التسقيط في المرحلة التي تسبق الانتخابات وتصبح جميع الاسلحة غير المشروعة والوسائل المنحرفة والفاسدة متاحة في سبيل معركة السلطة والتسلط. وميدانها مواقع التواصل الاجتماعي حيث الاعلانات الممولة لصفحات تسقيطية واضحة لكتلة سياسية وهي تهاجم بشدة كتلة سياسية اخرى. بل تحولت اليوم الى مجموعات ناشطة تعمل مع اجندات خبيثة تريد تدمير البلاد وتدمير الشخصية العراقية.
ويتضح اليوم للجميع مقدار هذه الحملات التشويهية الكاذبة والمغرضة   التي تستهدف المرجعية الدينية والشخصيات البارزة في المجتمع العراقي، وهي التي أسهمت منذ انطلاقها في التسويق لهذه الحملات الظالمة ضد الحكومات المتعاقبة وضد كل ما هو إيجابي وفق غايات ونوايا مبيتة وقد تكون لدول الجوار ومخابرات غريبة الدور الكبير الذي فرض بهذا الشكل على ساحتنا العراقية.                                                                                                                                        ولا نشك لحظة ان هذه الموجة من التسقيط تقف خلفها جهات مخابراتية خارجية تساندها أجندة داخلية تستهدف تمزيق اوصال النسيج الاجتماعي واثارة الخلافات والصراعات، بهدف ضرب الدولة بالعمق مما يؤدي الى الشلل التام في برامجها وخططها في التنمية الاقتصادية والاسكانية والزراعية والمعيشية خصوصا. ومن ثمّ خلق المشاكل والمعوقات لتهدد وحدة البلاد أرضا
وشعبا.
 ونعتقد أنّ المعالجة لا تقع على جهة معينة بل ان المؤسسات الحكومية والوطنية والدينية والثقافية والاجتماعية جميعها مسؤولة عن مواجهة هذا المرض الخطير الذي تحول الى ثقافة انسانية عامة بسبب ضعف المنظومات الثقافية والاعلامية والامنية للدولة العراقية والتي يجب اعادة النظر بها واطلاق مشاريع ناهضة بهذا الشأن واستنهاض الهمم لانجاحها كونه السبيل الأنجع لوأد هذه الظاهرة.