منذ بدأ التداول اللغوي بدأت في الظهور جملة من الخصائص التي منحت تلك اللغة إنشطارات متعددة، فاتخذت لنفسها وبنفسها عدة طرق في التعبير عما يكمن داخل النفس البشرية.
والسخرية كانت واحدة من تلك الطرق. ولن أذهب بعيداً لتأكيد وجودها في أدبيات الأساطير، بل أشير وبعجالة إلى فن السخرية عند العرب متمثلة في الشعر، الذي هو شريان حياتهم. والسخرية تواجدت في كتب الأديان كما جاء في القرآن : "فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب
أليم ..).
سمات السخريّة
نعلم أنّ السخريّة ظهرت في كل الفنون والآداب والاعلام وغيرها، وكان لكل واحدة منها أساليبها وطرقها ومعالجاتها في تقديم وعرض الأحداث التي تريد مناقشتها. هنا أركز بشكل خاص على جانب واحد وهو سخرية الاحتجاج وما أفرزته، حتى هذه الساعة، ساحات التظاهرات من أقوال وحكايات تنوعت ما بين السياسية والاجتماعية، كما أنّها تقدمت بحالتين هما: الحالة الشعبية ــ استخدام ما هو متداول في الحياة العامة للناس: (نطالب بتخفيض الحاضر والغايب .. أريد أتزوج ..) والحالة الثانية استخدام اللغة الفصحى سواء بطريقة النثر أو الشعر أو الجمع بينهما: كما جاء شعرا مثل "يرقصون ونرقص / لكننا في رقصنا / نرسم
وطن ..)
نجد في العموم الغالب أن الشعار يعمل على كشف سيئات وضعف الجهة الأخرى المعارضة له، ولها فإنّه يذهب إلى استخدام سلاح التهكم انطلاقا وإيمانا بأنه يشكل حالة عقاب وجعل (الخصم) الجهة المقابلة في وضع حرج. وتتركز في واحدة ما أهدافه هو صناعة الكراهية والاستخفاف معتمدا على حق التعبير عن
الرأي.
كما ويظهر في الشعار التهكمي حالة من الذم السياسي وكذلك كشف عدم الاهتمام من الجانب الآخر ومحاربة ما نسميه بالاستبداد أو القهر، كما يجسده هذا الشعار الانفعالي : (نطلب أن يرسل الله لنا النبي سليمان لأننا لا نستطيع أن نكلم الحيوانات ..)
إنّ البعض من الشعارات تذهب إلى التشفير والترميز. ويبدو أن الهدف من هذا هو دفع الخطاب لأن يجسد ويعمل على خلق أزمة تدفع إلى الصراع، وربما يكون صراعا عنيفا، وهو غالبا ما يكون قادما من الجهة المتسلطة التي تسيطر على زمام الأمور. نلمس في بعض الشعارات ما نطلق عليه تسمية الكوميديا السوداء كالتي يقدمها شارلي شابلن. وهي دائما تحمل سمة فرح أو أمل ما. وفي البعض منها نجد توجها وميلا إلى تقديم شعارات (ماكرة) من أجل أن تكون ذات فاعلية في استخدام السخرية من الإعلام الرسمي.. كما جاء على شكل محاورة (واحد خطب بالمتظاهرين: موتوا من أجل الوطن.. موتوا من أجل التحرير. قال له أحدهم: هل أنت سياسي؟ فرد الخطيب: لا ،، أنا حفّار
قبور ..)
طقوس السخريّة
السخرية هنا تتحول إلى عملية نقدية موجهة مباشرة للسلطة وما تقوم به من إجراءات. والسخرية هنا تكون قد اتخذت جانبها الايجابي في عملية تصحيح الأخطاء وتقديم البديل الجديد، باعتبار السخرية تعد دائما سلاح الإنسان المقهور. وهنا أمثلة كثيرة أغلبها رد على الناطقين باسم الحكومة (أخاف أروح للتحرير والكيا
فارغه).
تحقق السخرية جملة من الطقوس، في ما يخص من يمارسها، وان أول تلك الطقوس هو الشعور بالمتعة والانتصار والتخلص مما هو سجين داخل النفس، فضلا عن الشعور بالرضى وحالة من الاطمئنان لأنّه قد أدى واجبا وطنيا ــ إنسانيا. ومن جانب آخر فهو يشعر بزهو كبير وبانتماء حقيقي للوسط الذي يعمل من أجله، كما يشعر أنه يمارس تمردا سلميا. هنا تتجمع خواص كثيرة في داخل الشعار منها خاصية خلق حالة ترفيهية تحمل نقيضين في آن واحد وهما التخريب والمعارضة، مثل (أحنه القارورة الما تسكت وحصان الحمزه
يلوكنه ..)
يمكن مما تقدم أن نشير إلى ظهور سلبيات متعددة ومتنوعة رافقت هذه الحالة. ويمكن ذكر البعض منها وفي مقدمتها تحقير الخصم، الإغاضة، غياب الصدقية، انتهاك المعتقدات وشتائم تجاوزت الحدود
الفاحشة.
ختاما أرى ضرورة ايلاء هذا الجانب الاهتمام الجاد والذي يستحقه من لدن المعنيين في هذا الحقل ودراسته دراسة مستفيضة تعتمد المقاربات البيولوجية والنفسية واللغوية والقانونية
وغيرها.