إن العيش على الأصنام أو الأوهام يمكن أن يتجلّى وعلى نحو سافر بعد احتلال العراق 2003، ولعل الأفراد الذين يبثون أوهامهم بشأن بعض من الناس صاروا يشكِّلون سلوك ظاهرة قميء طال شره رقاب الناس وأرزاقهم، فنحن "لا نرى في التركيز كُل مرّة على حدٍّ واحد من حدود الإشارة إلا منظوراً ممكناً واحداً من الظاهرة الأساسية الموحّدة نفسها"
ومن ثم تحوّل هؤلاء الأفراد الذين يبثون الأوهام إلى قوة شر، أصبحوا فئة في مجتمع وظيفتها إشاعة الكلام عن أفراد في المجتمع العراقي في ظل تبدّلات ما جرى، وأتذكّر أحد المصطلحات التي استخدمها الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر في سنة 1923 بأن "العالم هو ما يلقانا"( )، بمعنى إننا صرنا نلاقي هذه الظاهرة ونحن نعيش في العالم.
وهكذا، نجد أن تصريف الأوهام هو ما نلقاه في مجتمعنا العراقي، على سبيل المثال، ومنها تشويه صورة الآخرين على الظنة لا اليقين ولا على الدليل الواضح، وصار الواهمون يطعنون بشرف الرجل والمرأة وكرامتهما، وكم من الناس أصبح ضحية تأدت الأوهام إلى قتله أو وتفخيخ جثته على نحو مضاعف؟ بل ومصادرة منقولات الشخص المعني، وطرده من العمل، وقتل أطفاله، وتحويل زوجه وبناته إلى متاع مشاع، وتهجير أولاده، وقمع معقولية طقوسهم الدينية والثقافية والعرقية؟ وكم من منتجي أوهام الإقصاء والقتل تحوّلوا إلى عصابة اغتيالات، بعضهم يحمل شهادة الدكتوراه، وكم من الكفاءات الأبرياء من الطبقة الوسطى راحت ضحية الظن الشراني بها.
أعود إلى الدكتور عبد الجليل الطاهر الذي قال: "إن بحث أثر الأصنام في المعرفة من أقدس واجبات المتعلِّم؛ حيث يجب عليه أن يتعقّب أصول المزالق والهاويات التي قد يقع في حضيضها ليجتث جذور الأوهام حتى تسلم المعرفة من الشوائب والنقائض، ويتخلَّص الإنسان من كل أنواع التحيّز والتعصّب والأنانية ليرى الحقيقة الواقعية ناصعة منعزلة عن كل ما يلصق بها من أحكام ذاتية" (ص 6 – 7).
دور المثقف
لعلَّنا في هذا النص نلاحظ المَهمة الملقاة على المثقف عامّة والفيلسوف والمفكِّر والمبدع على نحو أخص؛ إذ خص عبد الجليل الطاهر الإنسان المتعلِّم بكلامه لينهض بمَهمة تاريخية وحضارية وإنسانية تقضي "بتعقُّب أصول المزالق والهاويات التي قد يقع في حضيضها" الواهمون على الصعيد المجتمعي، وكم كان بودي أصب هذه الكلمات بماء الذهب لكي أضعها في هامة الكليات والجامعات العراقية لكي يتعظ وعيها، لكون النخب المتعلِّمة لا زالت تعمل بالأوهام، وتصريفها بين الناس، واتهام الناس بالظنة؛ بل وتُجدّد هذا التفكير وبإصرار، وتعمل به، وتطلب من الآخرين العمل به، بمعنى أن هؤلاء هم الذي يزرعون شجرة الإقصاء بين الناس.
إن مَهمة هذا المتعلِّم - بحسب عبد الجليل الطاهر - هي اجتثاث "جذور الأوهام حتى تسلم المعرفة من الشوائب والنقائض"، وجذور هذه الأوهام عميقة في مجتمعنا العربي الإسلامي، لكن الطاهر يركِّز على ملفوظ المعرفة "حتى تسلم المعرفة"، لأنه يعتقد أن الوهم هو "معرفة" وإن كانت أهوائية في النفس، و{النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (يوسف: 53) كما قال الله
تعالى. إن العلاج يبدأ من هنا، من إزالة هكذا معرفة عبر تفكيك قدسيتها الصنمية التي ابتنوها في أذهانهم ونفوسهم وأهوائهم قبل تقويضها وإزالتها على الصعيد العملي في المجتمع والأفراد، ولأن الدولة العراقية بعد 2003 مترنحة في فوضاها، فاقدة لبوصلة التعقل الاجتماعي حتى إنها صارت تحمل أعطالها بحيث لا تستطيع التصدي الحقيقي لشيوع بنية الوهم بوصفه الخلل اللامعقول والمؤذي، ولا التصدي لعمّال إنتاج الأوهام، ولا لعصابات تنفيذها في الناس في ظل هزال الضمير في مجتمعنا العراقي، وذبول الحياء المجتمعي، ووهن الرحمة لدى الناس.
مسؤولية شاملة
إن الظن/ الوهم الذي يقصد أفراداً من الناس بما يؤدِّي إلى قمعهم وقطع أرزاهم في العيش، وتهجيرهم، ومن ثم قتلهم، يبدو كل ذلك عائقاً بوجه السلم المجتمعي، والأمن المجتمعي، والاستقرار المجتمعي، وإنقاذ الناس من انهيار الوعي المجتمعي إلى الحضيض غير المرغوب فيه، والسقوط الفاضح في مستنقع الرذيلة والرياء الذي يتخبّط به الواهمون أولئك الذين يُطبِّلون للوهم بشأن الناس، وفي ظل عجز تصدي الدولة له ضمن برامج علمية اجتماعية وفكرية تحدُّ من ظاهرة توظيف أوهام الظن بغية تفكيك بنية المجتمع على نحو شراني، وغياب الوعي المجتمعي لدى منتجي الأوهام، كل ذلك يتطلّب صحوة واستيقاظ لشرانية الوحش التدميري الذي نما ولا يزال ينمو
بيننا.
إن كليهما - عجز تصدي الدولة و وغياب الوعي المجتمعي - يمثل التحدي السافر الذي يهدّد كيان الفرد والمجتمع في العراق، لكن الأمل يبقى ممكناً ذاك الذي يبدأ من سنة 1956 بصدور كتاب (أصنام المجتمع..) الدكتور عبد الجليل الطاهر - رحمه الله - والذي يتطلّب منا جميعاً إحياء رؤيته العلمية والأخلاقية والإنسانية، والعمل على أن يأخذ المجتمع المدني العقلاني دوره لتعزيز بنية السلم في المجتمع، والتصدي لتصحيح وإصلاح النظر إلى الإنسان بوصفه إنساناً( )، وتقويض بنية الوهم في المجتمع، والحد من تطلّعات العُنف التي تزرعها ظرفية ما يجري في نفوس أطفالنا، وكذلك على المرجعيات الدينية أن تدلو بدلوها في هذا الإصلاح، كما أن المؤسسات الثقافية بمختلف قطاعاتها لا بد أن تنهض بإصلاح الحال إلى جانب الشخص المثقف نفسه الذي لا بد أن يتبنى مسؤوليته بتفكيك بنية الأوهام وتقويضها للتخلّص منها. أن التصدي للشر مسؤولية مجتمعية إنسانية شاملة فهيا إلى حلها على نحو
جذري.