علي حسن الفواز
يبدو أنّ سؤال النقد في الثقافة العربية سيظل سؤالاً مريباً، لأنّه يعني في الجوهر نقد السلطة، أو المقدّس، وعبر ما يتداعى من تمثلاتهما النصوصية، وهذا ما يعني وقوعه في المحظور، أو أنه سيكون سؤالا في نقد الاشكاليات الكبرى التي تخصّ المسكوت عنه، وكلّ ما يتعلّق بعلاقة النقد مع المؤسسات المسؤولة عن صناعة القمع والجهل، بما فيها المؤسسات القرابية، والمؤسسات التي تتكئ عليها منظومة القيم الشعبوية الجماعاتية، أو القيم الصيانية التي تُضخّمها- عادة- السلطات الاستبدادية العسكرية والأيديولوجية والعصابية..
سؤال النقد هو سؤال البحث عن الهوية والذات، مثلما هو سؤال البحث عن التنمية والمعرفة، وربما هو سؤال الفلسفة العالق بالبحث عن الوجود، الذي لم نجد له بيئة مناسبة في الاشهار والتعلّم والاستعمال غير المُريب في تداولياتنا الثقافية، بوصف هذا السؤال تحفيزا على المواجهة، وعلى الحفر في الأنساق المضمرة، والذي يعني عند البعض نزوعاً لتبرير الحديث عن العنف الثقافي، فهل يحتاج العنف الى مثل هكذا السؤال، أم انّ عنفه الافتراضي هو خطاب مواجهة ومقاربة مع التاريخ والمتحف..
من هنا ندرك اهمية العلاقة ما بين النقد، وبين حاجته إلى وجود نص تاريخي أو ديني أوثقافي يبرره.. فهل باتت الانتلجنسيا العربية أكثر رثاثة لتنأى بنفسها بعيداً عن صناعة السؤال وصناعة النص المُضاد؟ هذا السؤال، يُثير –الآن- الكثير من اللَبْسَ والغموض، ليس لأنه يعكس اشكالية خطيرة، ووعيا مشوّشا وعاطلا عن الارادة، بقدر ما أنه يُسهم في تعرية المفارقة (النصوصية) التي يعيشها (الاجتماع الثقافي) العاطل عن هويته، والفاقد لقدرته في تجاوز مراثي الكساد الثقافي، حيث يعيش المثقف العربي أوهام الضحية والقربان، وصولا الى تماهيه مع لذة الفرجة، والبحث عن وهم المُنقد الاخلاقي..
هذا ليس جلدا للذات، كما يفترض البعض، وليس هروبا للامام أيضا، لكنه واقع الحال، وواقع المحنة التي نعيشها، فما يحدث اليوم في وقائعنا الثقافية من فجائع، وخيبات، ومن مظاهر للغلو والتطرف والعنف، يؤكد وجود هذه الصورة الرمادية، تلك التي تستدعي الحاجة لفحص ومراجعة طبائع ما كرّسته نُظم الاستبداد، أيديولوجياً وأمنياً وثقافياً، مثلما تفترض حيازة رؤية واضحة للتعرّف على حمولات تلك الصورة الغائمة، فضلاً عن الحاجة لفهم لأسباب نشوئها، ولطبيعة مرجعياتها المُعلَنة والمُضمَرة، وإدراك ما يحوط بها من تعقيدات، ومن أزمات.. فوسْط هذا الرعب العمومي نجد أنفسنا أمام رهابٍ معقد لسرديات الصورة/ صورة الفقيه والجنرال، والزعيم، والذي يتكئ على تراثٍ من المهيمنات السياسية والتاريخية الضاغطة، فضلاً عمّا يستعين به من نصوصٍ جائرة، لها لبوس الغواية والقوة، ولها أسانيد فقهيَّة تضع السؤال الثقافي الضد في سياق (الهرطقة) مثلما تضعه في سياق الخروج المارق عن فقه الأمة، وولاية الأمر، وبالتالي وضع القيود على أي خطابٍ ثقافي يمكنه أنْ يتبنى فاعلية السجال، والتحليل والجدل والشك، فضلاً عن قطع الطريق على التعاطي العقلاني مع إشكاليات تداولية لمفاهيم قابلة للنقد، مثل النقل والعقل والحرية والشرع والدولة والأمة دونما إكراهات، حتى باتت هذه المفاهيم مُحدّدة الاستعمال، ومتموضعة في إطار فهمٍ معين، لا تأثير لها على مستوى استثارة الوعي وتحفيز التفكير، ولا على مستوى توسيع فاعليات النظر للواقع الاجتماعي والتربوي والحقوقي والاعلامي، وحتى السياسي، فالكثير من معطيات هذا الواقع تعكس طبيعة الأزمات المتراكمة، ورثاثة الخطاب الثقافي وتهميشه، وبما يُسهم في تضخيم الخطاب السياسي السلطوي، والخطاب الأيديولوجي، وحتى الخطاب الفقهي، لنجد أنفسنا أمام مصادر عميقة لتسويق التهويم العنفي والتقديسي لظاهرة (الحاكمية) التي تحدّث عنها ابو الأعلى المودوي وسيد قطب، وهما جزء من ظاهرة صناعة الفكر العنفي، وتعطيل الوظيفة التحليليَّة للخطاب الثقافي..
نقد هذا الخطاب هو عتبة إجرائيَّة لمواجهة الأزمة، وتعرية خطابها التاريخي والثقافي، وإذا كان أصحاب مشروع نقد العقل العربي والإسلامي مثل محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي ومحمد اركون وهشام جعيط ومحمد الطالبي وعبد الجبار الرفاعي وغيرهم قد وضعوا تصورا عن الطبيعة الاشكالية لنقد هذا العقل، مواجهة تمثلاته الصيانيَّة، فإنَّ ضعف تداوله قد أفقده القدرة على تحويله الى قوة نظيرة..
كما أنّ تضخم الظاهرة السياسية الجماعتية، لا سيما بعد ما سمّي بـ(الربيع العربي) وبروز ظاهرة الارهاب التكفيري أصبحت غطاء عائما لصناعة الرعب وترويجه والتبشير بخطابه، ومصدرا من مصادر تعطيل إرادة تمثيل الدولة الحديثة، وحيازة القدرة على الدفاع عن العقل، والوقوف أمام سايكوباثيا العطب الثقافي، عطب الحضور، والممارسة والمؤسسة والتعليم والتنمية...
هذا العطب الثقافي انعكس بشكل مريع على واقعنا العربي، حدّ أنه صار عطبا إشكاليا في صناعة السلطة وفي أنماط السلوك والتفكير، وتماهيا غرائبيا مع القوة الطاردة/ قوة الجماعة والأدلجة الرثة والاستبداد، وهو ما انعكس أيضا على تمثلات الانتلجنسيا العربية، في وعيها المضطرب لشروط المشروع
التنويري، وفي جدّتها واستعدادها لمواجهة اوهام الرعب السلفي، ذلك الذي بات يُبشّر علنا، أو عبر وسائل الترهيب والتكفير بالمقدس الماضوي، والدولة الماضوية، والتطهير الماضوي..
هذا الرعب اكتسب وسط العطب الثقافي قوته الطاردة، تلك التي تسعى الى شرعنة اخضاع الثقافي الى السياسي/ السلطوي، وربما الى وضع بنية اطارية لترسيم حدود الثقافي، في وصفه، وفي تأويله وفي وظيفته عند المواجهة والنقد، أو في الخضوع لها، ولعل تحوّل البعض من المثقفين الى (حُرّاس ايديولوجيين) لهذه السلطة/ مؤسسة الرعب هو أخطر تمثلات ذلك العطب، حيث تتسع صورة الجنرال/ الفقيه وتغيب صورة الساموراي الذي اراده
يوكوشيما..