حِداد الحديقة على ربيعنا

ثقافة 2019/12/01
...

ناجح المعموري 
تثير رواية "يا مريم" لسنان انطوان عدداً من الاسئلة. لكن اكثرها حضوراً اسئلة خاصة بالطوائف وهويتها وحياتها وسط التنوع. فضلا عن علاقتها مع الاخر وسط وطن مثل العراق، تعرضت فيه الطائفة السريانية لإبادة معروفة وملاحقة سياسية واقصاء بسبب التباين والاختلاف. واعتقد بأن هذه الرواية تضعنا منذ اللحظة الاولى امام حالة العزل، المفضية نحو احساس بالاغتراب، وكـأنّ هذا موروث ثقافي وديني.
لان تصدير الرواية اشار بوضوح (جاء الى بيته، فما قبُله اهله وبيته) يوحنا 1:11 والدلالة واضحة بما ينطوي عليه من قسوة، وهي اختصار لجزء حيوي ومهم من هذه السردية التي ظلت راكضة نحو مصائر لم تختلف عن نهايات كثيرة حدثت في الماضي كان الاحساس بالاغتراب حاضراً وبقوة في اعماق الكثير من شخوص الرواية. لكننا وبالضرورة نشير الى الصوت الاخر المنتمي للوطن، وغير المستعد للابتعاد عنه، حتى اذا اضطر لمغادرة مكانه، فانه لن يذهب بعيداً (يخال إلي احياناً وكأن خروجنا من بيتنا في الدورة لم يحدث كله مرة واحدة في صيف عام 2007 ، بل كان سلسلة بدأت قبل سنوات. كأن قطعاً مني كانت تختطف وتسرق واحدة بعد الاخرى، حتى لم يبق شيء. ففي البداية خطفوا خالي وقتلوه ومع انه لم يكن يسكن معنا في نفس البيت، الا انه كان في ذاكرتي جزء من حميمية البيت الذي ترك غيابه وحشة فيه ص 118) هذا المقطع يختصر كثيراً من السرديات القصية الخاصة بالمكان، الذي ظل حاضراً حتى في ذاكرة من اختار الهجرة الى الخارج.
الثقافة السائدة، المهيمنة هي الطاردة للسريان، وهي المزاولة للعنف والقتل بأنواعه العديدة، وسجلت بعضاً منه هذه الرواية القصيرة. واحسن سنان انطوان اختياره يوسف راوياً لأنه يتمتع بذاكرة صافية اختزنت الكثير من الوقائع والاحداث فضلا عن ان الثمانين عاماً التي عاشها، جعلته معياراً ضابطاً. لكن التباين بين الاجيال يقترح الاختلاف الذي له اسبابه الموضوعية احياناً، مثلما بين مها ويوسف المتهم. بأنه يعيش الماضي ويستعيده ويؤثر فيه، لا بل يتحكم به. كما تبدّى يوسف صوتاً للحكمة والتوازن والضبط الواضح في قراءته لما يجري معهم. وحياتهم مستمرة ولن تتوقف، كل شيء سيولد من جديد في الربيع... (كل شيء سيولد من جديد، سيزهر القرنفل والجوري وحلك السبع ويلون الحديقة، وسيسمح لي بالدفء بأن اجلس على المرجوحة واشرب الشاي واغمض عيني وانا اتلذذ بعبق الورود. كل شيء سيزهر الا حنّة، فالقبور لا تزدهر القبور لا تعرف الا فصلاً واحداً، الخريف. لا شيء سوى الخريف بانتظار القيامة. ترى متى سآخذ مكاني وانام انا ايضا بجانب حنّة ص 94) هذه رؤية يوسف وفلسفته الحياتية، منحته خلاصة واعية عن الحياة وتنوع فصولها، لكن الربيع يأتي مرة اخرى مثل الفصول الباقية. الربيع مانح الحياة صفتها الجميلة / الهادئة. ولذة يوسف الوحيدة بالحياة هي الجلوس بالحديقة والتمتع برائحة الورود
 والوانها. 
يوسف محكوم بالماضي مثلما قالته مها في الاستهلال. لكنه تعايش مع ما في هذا الموقف واعتبره عنصراً ثقافياً ضرورياً ولم يكن متشدداً بطروحاته مع مها التي شهدت بتجاوزها وللفارق الزمني بينهما. الماضي مستمر وحي، متعايش مع الحاضر، وكشاف له وللآتي، حتى صار معياراً لقراءة ما يجري (اليس الماضي مستمراً وحياً بشكل ما، يتعايش مع الحاضر ويحترب معه؟ ام انه محبوس في الصور المؤطرة المعلقة على جدران الذاكرة التي تمتد آلاف الامتار، تلك المعلقة على جدران البيت والمحفوظة في الالبومات ص 10) ويتبدّى الماضي عبر ثقافة ذكية لتوظيف التدوين بالسريانية باعتباره نوعاً من التمركز حول الهوية وحفظ الكينونة الحميمة المهددة بالطرد. كما ان الكتابة بالسريانية توحي بأن الرواية مخطوطة او فيها جزء مهم وحصراً الذي له علاقة قوية مع المكونات السريانية. 
والازدواج اللغوي ضروري، دال على حضور ثنائي مشترك. لان سنان انطوان لم يرد الاكتفاء بالماضي البعيد او البدايات الغامضة (كنت دائماً استجيب بحماسة وألونها بالتفاصيل واتتبع الخيوط التي تصلها بصورة اخرى احيانا. او تلك التي تصلها بحكايات لم تلتقطها عين الكاميرا. حكايات معلقة في ذاكرتي بآهات وابتسامات، واخرى محفوظة في ارشيف يحرسه
 القلب ص 11).
القلب حارس ماضيه بذاكرته وصوره ووقائعه، القلب امين للغاية على كل ما تركه الحاضر، مخزوناً بآليات متنوعة، لكن الفوتوغرافيا اكثرها حضوراً وهيمنة، وتبدّت الصورة احدى وسائل الماضي لتوثيق ما كان. ولعبت الصورة دوراً ايقونياً متجاوراً مع الايقونة المسيحية للسيد المسيح والعذراء مريم. لم يعتن الروائي بتفاصيل الفوتوغرافيا، والاكتفاء بالمعلومة ذات الصلة مع الراوي/يوسف ومركز ذلك الشجرة السلالية للعائلة. القلب حارس الذاكرة وخزانة الماضي، وهذا ما جعل من يوسف شخصاً محبوباً ومتوازناً وقادراً على قراءة ما يجري بطريقة مقبولة وشفافة، لكنه لم يتجاهل ما هو سائد من عنف وازاحة واخضاع وتبدّى هذا واضحاً بتحصيناته الضرورية (.... اخذت سلسلة المفاتيح من فوق الطاولة الخشبية التي كانت تحت الشماعة. فتحت السرگيات الثلاث ثم قفل الباب الخشبي. هبت نسمة باردة على
 وجهي ص 33).
اضفى الروائي على القلب خاصية فريدة، اخذها من تداولات شعبية صادقة. فظل القلب رمزاً عميقاً دالاً على الماضي مثلما اراد الروائي ذلك، وجعل منه حاضراً قوياً في رواية يا مريم التي تمركز فيها الماضي وسردياته وتشكلات الديانة وطقوسها، مثلما استمر حضور الاسطورة المسيحية مهيمنة وصاعدة من الحضارة الانسانية، ولأن التاريخ وسردياته / الماضي وذاكرته / السلالة العائلية وشجرتها الفوتوغرافية، كلها معاً حارس لها. وعندما تم اغتيال يوسف في الهجوم على كنيسة النجاة اختارت الرصاصة قلبه المانح للجسد حياته والحارس لكل التاريخ الطويل والعميق. وكأن رسالة سنان لا تبتعد كثيراً عن شفراته السردية، الخاصة بالإرهاب واستهداف العتبات المتقدمة للتاريخ ممثلة لها بالسريان في العراق.
[ لم تظهر جثة يوسف في فيلم ولم يشعر بأي ألم عندما انكسرت أصابع يده. فواحدة من الرصاصات الأربعة التي كانت قد اخترقت جسده قبل ساعات كانت قد عثرت على قلبه واسكتته. وقبل أن يسكت قلبه كانت شفتاه قد همستا بصوت خافت "يا مريم" لكنه لم يكمل جملته. ظلت عيناه مفتوحتين حتى وهما تغرقان في ظلام الموت // ص156 ]
صاغت شخصية يوسف المركزية استهلال الرواية وخاتمتها. وتميز بحضور واسع في تفاصيل الرواية. والأكثر تجوهراً هي الاسطورة المسيحية التي أشرنا لها وسنحاول التركيز بالحديث عن الرموز الجوهرية في الحضارة السومرية والتي لعبت دوراً ثقافياً ودينياً بنظام الخصوبة وانتقلت الى المسيحية، ومثل هذه العناية الفنية المتميزة برواية كاشفة عن اهمية الأصول وتبدّياتها، تومئ لبؤرة الماضي، غير القابل بالمحو الكلي، وانما يبقى في اللاوعي أو الوعي، بانتظار فرصة استيقاظه ثانية.
وهذا ما تبدّى في المسيحية، كاستدعاء للتاريخ / الماضي المتمركز ــــ كما قلنا ـــــ في ذاكرة الراوي / يوسف بوصفه أنموذجاً للكائن السرياني، الذي يواجه التدمير باستمرار بواسطة الاستدعاء لمخزون الذاكرة ومروياتها لهوية للمكون الديني. العودة الى مخزن الذاكرة تعبير عن رد المحو الى الحضور، لكن هذا النوع من الصراع المستمر يستولد اغتراباً مثلما، هو حاصل مع مها بعد اسقاطها بسبب انفجار مروع [ لم اكن مستعدة للتخلي عن السدادات. اكتشفت أن الحياة اليومية تصبح أكثر رحمة. وأقل عنفاً وعبثاً، عندما تشبه مشاهد الأفلام الصامتة. لكن حتى صوت شهيقي وزفيري كان يؤرقني أحياناً وأنا احاول النوم. كنت اتمنى لو تسكت رئتاي ويكف قلبي عن
 الدمدمة // ص130]
القطيعة حاصلة مع اليومي وللغربة قسوتها والسدادات التي اوصت بها الطبيبة هي كي لا تسمع شيئاً وترضى بالاغتراب عن المألوف وضغطه. لم يعد اليومي قادراً على تطمين ما تريده مها وتحلم به، بل استمر بضغوطه ومحوه لشجرة العائلة تدريجياً، انها تتساقط يوماً بعد آخر، وتأكلهم الغربة المنفتحة بانتظار آخر جديد وهكذا، هذا ما ادركه يوسف كذلك، لكنه لا يقوى حتى على التفكير بمكان آخر، ومثله أعداد كثيرة، فاختارت أربيل مكاناً للابتعاد عن الدمار والاكتفاء بالجزء من مكان الكل وتاريخه
 الطويل.
الشجرة السلالية تاريخ ومرويات باقية في الذاكرة، وفي الحياة والمزاولات الشعائرية، لا يمكن بتر اليومي على الذي سبق. هذه فلسفة يوسف وثقافة الجميع، حتى مها لحظة الهدوء تكشف عن قناعة أخرى [ كان يخيّل اليّ أن صوت الكاهن، خصوصاً عندما يرتل بالآرامية أو السريانية، قادم من الماضي السحيق ومن البدايات الغامضة. وكنت أرى القداس احتفالاً للجميع، أتخيّل المسيح شجرة مقدسة لا تموت مهما اقتلعتها العواصف وجرفتها الطوفانات شجرة تعود الى الحياة كل
 ربيع // ص101 ].