باديو يتحرى بنية الرأسمالية المعولمة والجهاديات الوحشية

ثقافة 2019/12/02
...

الكتاب : شرّنا يأتي مما هو أبعد، التفكير في مذبحة 13 نوفمبر

المؤلف : آلان باديو
ترجمة : محمد هاشمي
الناشر :  مؤسسة مؤمنون بلا حدود
بالاشتراك بين مؤسسة (مؤمنون بلا حدود) و (معهد غرناطة للبحوث والدراسات العليا) صدر كتاب (شرّنا يأتي مما هو أبعد، التفكير في مذبحة 13 نوفمبر) للفيلسوف الفرنسي  آلان باديو، وهو كتاب راهني بامتياز وذلك من جهتين: الأولى أنه يفكر في مذبحة استأثرت باهتمام الرأي العالمي، والثانية ان الفيلسوف عرف بمواقفه اليسارية في زمن هيمنة الرأسمالية المعولمة. اذن الكتاب موجه بمرجعية يسارية تقر بأزمة الرأسمالية المعولمة، على الرغم من انتصاراتها البادية، ويؤمن بالبديل العقلاني. المذبحة التي ضربت قلب باريس  كانت حدثا مؤسِّسا، من حيث إنه يؤسس لمرحلة فارقة بين ما قبل وما بعد، يترتب عليها اتخاذ موقف فلسفي من الحاضر كما يقول الآن باديو..
 مذبحة 13 نوفمبر 
كانت سلسلة هجمات إرهابية منسقة شملت عمليات إطلاق نار جماعي وتفجيرات انتحارية واحتجاز رهائن حدثت في مساء يوم 13 نوفمبر 2015 في العاصمة الفرنسية باريس، تحديدا في الدائرة العاشرة والحادية عشرة، في مسرح باتاكلان وشارع بيشا وشارع أليبار وشارع دي شارون. إذ كانت هناك ثلاثة تفجيرات انتحارية في محيط ملعب فرنسا في ضاحية باريس الشمالية وتحديدا في سان دوني. بالإضافة لتفجير انتحاري آخر وسلسلة من عمليات القتل الجماعي بالرصاص في أربعة مواقع. اقتحم مسلحون مسرح باتاكلان واطلقوا النار بشكل عشوائي، واحتجزوا رهائن، بعد تفجير ثلاث من المهاجمين أنفسهم، كانت الحصيلة الأعلى للخسائر في مسرح باتاكلان (أسفرت الهجمات عن مقتل 130 شخصا وجرح 368 شخصا) شنت ثلاث فرق ست هجمات منفصلة ثلاثة  تفجيرات انتحارية في هجوم واحد وتفجير انتحاري رابعة في هجوم آخر وعمليات إطلاق نار في أربعة مواقع على شكل أربع هجمات منفصلة. و عمليات إطلاق نار في محيط شارع أليبر وشارع لافونتين أوروا وشارع شارون وشارع الجمهورية. وقعت ثلاثة انفجارات بالقرب من ملعب فرنسا وآخر في شارع فولتير، واثنان قاموا بتفجير أحزمتهم الناسفة التي تستخدم بيروكسيد الأسيتون كمادة متفجرة.
 
انتصار الرأسمالية المعولمة 
في البداية يقدم لنا الفيلسوف آلان باديو تصوره لبنية العالم المعاصر كالآتي: لا نزاع حول الانتصار الهائل للرأسمالية المعولمة، فهي عادت إلى طاقتها الأولى وحيويتها التي توقفت جراء الكبح الشيوعي. وهذه الرأسمالية أصبحت كبنية ضخمة تشتغل بمنطق كاسح وتتجاوز منطق الدول لتدار بمنطق العصابات، فالعالم بات يعج بالشركات العابرة للقارات التي أصبحت كوحوش ساحقة ورساميل بعضها يتفوق على الدول، وغدت في كثير من الأحيان عائقا نحو الاستثمار وجنوح الرأسمال، مما جعل البنية الرأسمالية تعمل على إضعاف وإهلاك الدول وإفشالها لترك سريان الاجتياح والالتهام يشتغل دونما قيود. بل والأكثر من ذلك فهي أصبحت تسعى نحو التدمير المنهجي لكل التدابير ذات الأبعاد الاجتماعية وكل الإجراءات التي تصب في الخير العمومي.
 
الرأسمالية المنفلتة
 يؤكد آلان باديو على أن (منطق رأس المال أصبح منفلتا) الليبرالية قد تحررت خلال الثلاثين سنة الأخيرة، ونحن نتفرج ونقف مكتوفي الأيدي. فحتى الشيوعية التي كانت تعد بديلا أصبحت من الهوان والمرض إلى درجة الخجل من ذكر اسمها، بل هي محرمة على المستوى العام. إن الرأسمالية بمخالب شركاتها أصبحت قادرة على تمزيق الدول وشل كل مقاومة محتملة وجعل كل شيء سلعة وبيع وشراء فحتى «داعش» كانت مجرد قوة تجارية بالنسبة لها، فهي تبيع في النفط والقطن ) إن هذه الرأسمالية المعولمة صنعت لنا بحسب الفيلسوف تقسيمات طبقية عالمية جديدة وهي:
أولاً: طبقة أوليغارشية قليلة العدد وتسيطر على النسبة الكبرى لثروات العالم وهي المحركة لبنية الاكتساح وهي جشعة ومتوحشة وتستعمل كل الوسائل للحفاظ على مصالحها.
وثانياً: طبقة متوسطة ينعتها بالذات الغربية وهي تتقاسم الفتات من ثروات العالم أي نسبة 14 بالمئة وهي المتمركزة في أوروبا وبعض البلدان النامية وهي معتدة بنفسها وفي الوقت نفسه تعيش في خوف من ضياع ما لديها، إذ تقتطع منه الأوليغارشية كل مرة، ناهيك على تشبثها بآيديولوجيات تبريرية لضمان لقمة عيشها القليل ولكن الأمن. إلى حد أن الديمقراطية بحسب آلان باديو لم تعد سوى إدارة خوف هذه الطبقة.
وثالثاً: نجد الحشود الهائلة من البشر والتي لا مكان لها في العالم الرأسمالي الجديد، لأنها لا هي من فئة الإجراء ولا من فئة المستهلكين، فهي خارج السوق العالمية، هذه الحشود تنقسم بدورها إلى ذاتين هما ذات راغبة في الغرب وتتوق إليه وتشتهي التملك والمشاركة في كل ما يعرض من مغريات وصور في كل الأمكنة للرخاء الرأسمالي، وذات عدمية انتقامية ومدمرة، عجزت عن الحصول على ما لدى الغرب فانقلب الحب كرها وحقدا وحسدا. 
 
الاختلالات في المنظومة التي تحكم العالم
حسب الفيلسوف الفرنسي؛ فإنّ نسبة 1 % من سكان العالم، تستحوذ على 46 % من الثروات، وهو ما يقترب من النصف تقريباً، ونسبة 10 % تتملك نحو 86 % من الثروات، بينما نسبة  50 % من العالم لا تملك شيئاً، ما يعني أنّ هناك كتلة فقيرة تقارب نصف سكان الأرض، تعيش غالبيتها في افريقيا وآسيا. احتكرت في قبضتها المال والثروة، بينما طردت أغلب سكان العالم من مناطق النفوذ، والتبادل الإقتصادي، وسوق العمل والإنتاج. وفي ظلّ الاختلالات في تلك المنظومة التي تحكم العالم، وتفرض سيادتها، تشكلت في مقابلها (هيمنة العصابات) كبديل عن الدول المنحسرة، والتي أضحت، في تعبير كارل ماركس، وكلاء محليين لرأس المال، المركز في
 العالم.
 
تشريح الإرهاب
ويحلل باديو خلال الكتاب أسباب انضمام الشباب إلى الجماعات الجهادية طواعية، مؤكدا أن هذا الأمر له معطيات كثيرة أبرزها يكمن في تشريح أزمة الإرهاب المتأسلم، من خلال أزمة الرأسمالية، وتناقضاتها الداخلية، وما ترتب عليها من هيمنة طبقة غنية امتلكت كل شيء، واحتكرت في قبضتها المال والثروة، بينما طردت أغلب سكان العالم من مناطق النفوذ، والتبادل الاقتصادي، وسوق العمل والإنتاج. وفي ظلّ الاختلالات في تلك المنظومة التي تحكم العالم، وتفرض سيادتها، تشكلت في مقابلها «عصابات» امتلكت هي أيضا هيمنة كبيرة واعتبرت نفسها بديلا للدول المنحسرة، والتي أضحت، حسب تعبير كارل ماركس (وكلاء محليين لرأس المال)، المركز في العالم. 
 
تنوع الذاتيات في العالم المعاصر
يرى باديو ان بنية العالم المعاصر تظهر ثلاثة انواع  من الذاتيات : الذاتية الغربية والذاتية التي ترغب في الغرب وأخيرا الذاتية العدمية. تتمثل الذاتية الغربية في الطبقة الوسطى التي تتركز على الخصوص في الدول النامية، والتي تقتسم 14 بالمئة المتبقية عن الأوليغارشية المسيطرة على العالم. وتتميز بالاعتداد بالنفس، من حيث إنها تعتبر نفسها الأنموذج الذي ينبغي أن يكون، مدعية بذلك الحداثة والتقدم ، وهو الأنموذج الذي تعمل وسائل الإعلام على تسويقه. أما الذاتية التي ترغب في الغرب، فهي ذاتية تتولد نتيجة لتأثرها بنمط حياة الذات الغربية الذي يتم تسويقه؛ وعليه فإن الرغبة في الغرب مردها إلى التقليد واتباع الأنموذج الأول بحثا عن ترف الحياة المعاصرة أما الذاتية العدمية، فهي تنزل على طرف نقيض من الذاتية التي ترغب في الغرب ذلك أنها تحاول عدم جميع تمظهرات الذات الغربية، وهي عدمية تحركها من منظور آلان باديو (الرغبة العنيفة في الانتقام والتدمير ويعبر عنها في صورة ميتولوجيا رجعية  ضدا لنمط الحياة الغربية وللرغبة في الغرب) وعلى الرغم من الاختلاف الظاهر بين هذه الذاتيات، إلا أنها تشترك في خاصة واحدة، وهي أنها ذاتيات ارتكاسية ، وقد ترتب عن هذه الذاتيات الارتكاسية ظهور الفاشية المعاصرة، و(داعش يمثل مظهر من مظاهر الفاشية المعاصرة... ولا يوجد فرق بينه وبين بربرية الفاشيين المعاصرين وبربرية الرأسمالية المعولمة)
 
تحولات الحدث فلسفيا
آلان باديو ارتقى بحادثة 13 نوفمبر إلى مستوى الحدث بمعناه الفلسفي، حيث ينبه إلى الالتباسات التي يثيرها حول الراسمالية المعولم والجهاديات فهو ليس حادثة عارضة حدثت في مكان و زمان محدد، بل إنه يحيل على تحول جذري بين ما قبل الحدث وما بعده، الأمر الذي يجعله يكتسي طابعا كونيا وليس طابعا محليا مشروطا بسياق تاريخي محدد ومجال جغرافي ضيق. فهو يفكر في مذبحة 13 نوفمبر من موقع الفيلسوف المتسلح بالمفاهيم والمقولات ويراهن على بلوغ (الحقيقة الموضوعية)، وليس من موقع الصحافي أو المحلل السياسي اللذيْن يستسلمان، طوعا للانفعالات وهيجان الهوية الجماعية. الكتاب في الأصل محاضرة قدمها باديو بشأن المذبحة الجماعية والعشوائية، التي وقعت في باريس، والتي عدت  الأكثر دموية منذ الحرب العالمية الثانية في فرنسا ، وقد أعلنت عصابات داعش الاجرامية مسؤوليتها عن الاعتداء. كتاب آلان باديو كتاب مفكك في طرحه، ينتقد الخطاب  السياسي الذي انتشر بعد هجمات باريس. وتوصل من خلال تحليلاته الى ان هناك بنية تتحكم في العالم نتجت عن هيمنة رأس المال الذي تجاوز أفق الدولة، لكي يخلق مناطق كبرى تدار بمنطق العصابات. أقلية تملك كل شيء، وطبقة وسطى تتقاسم الفتات، وحشود هائلة من البشر لا مكان لها في العالم.